ومن أعظم الميزات للعرب أيضاً: الأخلاق والغرائز؛ فإنهم يتميزون بأخلاق لا يتميز بها غيرهم، وهذا لا يشك فيه أحد عايش العرب، وعايش غيرهم من الأمم والشعوب.
فهم أطوع للخير، وأقرب للسخاء، والحلم، والشجاعة، والكرم، والوفاء، والعطاء من سواهم حتى في الجاهلية كان العرب عندهم طبيعة طيبة لكنها مثل الأرض الطيبة التي لم ينزل عليها مطر، فلما جاء الإسلام كان المطر الذي نزل على أرض طيبة فـ: {اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [الحج:5] .
كان العرب في جاهليتهم يهيمون بالحرية، ويأبون الذل، والرق، والاستعباد، ويبعدون عن الغطرسة، والازدراء ولا يقبلون الضيم بحال من الأحوال، ولم يتعودوا على حمل الضيم، ولهم في ذلك قصص عجيبة.
أما الأمم الأخرى فإنها تقبل الضيم، وأذكر لذلك قصة طريفة، يقال: أن كسرى أمر جنوده أن -يمسحوا الأرض- يمسحوا بلاده ويقوموا بإحصائية عن المزارع والأراضين وغيرها، فمسحوها وقدموها بين يديه، فجمع كسرى الناس، وقال لهم: قد جمعنا الأرض، ومسحناها، وقررنا أن نأخذ منكم في السنة (3) مرات مقداراً معيناً من المال، نضعه في بيت المال حتى إذا حصل أمر عارض، احتجنا فيه إلى المال، أخرجنا من هذا المال وأنفقناه في حاجتنا، فما رأيكم؟ فسكتوا وأعاد مرة أخرى: ما رأيكم؟ وسكتوا.
ومرة ثالثة، يقول: ما رأيكم؟ فقام إنسان مسكين رديء الحال وبدأ يعطيه من ألفاظ التبجيل، والتقدير، والتوقير المعروفة للطغاة، ثم قال له: كيف تجعل هناك خراجاً وجُعْلاً ثابتاً في السنة ثلاث مرات، على أرض غير ثابتة؟ فإن الزرع يهيج ويموت، والماء يتوقف، والنبع يجف، والكَرْم يهلك، فكيف نخرج عطاءً ثابتاً على أشياء قد تموت وقد تهلك؟! فقال: يا مشئوم، يا مشئوم ماذا تعمل أنت؟ ما هو عملك؟ قال: أطال عمرك! أنا كاتب.
فقال أين الكتاب؟ فجاء الكتاب كل واحد معه الدواة.
قال: اقتلوه بالدواة، فبدأ كل واحد يضرب هذا المسكين بالدواة حتى قتل هذا المسكين.
وبعد ذلك قال كسرى للناس: ما رأيكم؟ قالوا: رضينا، رضينا، والذي تراه هو المبارك.
فهذه الأمم الأخرى تحملت الضيم، وتعودت على حمله، وأذعنت له حتى لا يهم أحد منهم أن يتكلم بالحق.
أما العرب فكانوا على النقيض من ذلك؛ حتى في جاهليتهم؛ ولذلك أمثلة كثيرة من أمر الجاهلية يطول الكلام فيها، وهي موجودة في كتب الأدب والشعر، لكن لا بأس أن أضرب شيئاً منها: هناك رجل عربي في الجاهلية كان عنده فرس نفيسة يسميها: سكاب، فجاءه شيخ القبيلة، أو ملكهم، فقال له: أريد هذا الفرس، أريدها لي، أو أعطني إياها، أو أهدها إليّ، فرفض وأنشأ يقول أبياتاً من الشعر: أبيت اللعن! إن سكاب علق نفيس لا يعار ولا يباع أبيت اللعن: حجية معروفة عند العرب.
علق نفيس: يعني شيء مهم جداً، لا يعار ولا يباع.
فلا تطمع أبيت اللعن فيها ومنعكها بشيء يستطاع ما دمت مادامت أستطيع أن أمنعكها، فلن أعطيكها بحال من الأحوال.
أيضاً عمرو بن كلثوم، وهو شاعر جاهلي معروف، طلب منه عمرو بن هند؛ وهو ملك من ملوك العرب، طلب منه أن يزوره، قال: تأتي أنت وأمك، فجاء هو وأمه -اسمها ليلى - وزاروا هذا الملك.
فجلس هو عند الملك عمرو بن هند، وجلست أمه عند أمه، فقالت أم الملك لـ أم عمرو -هذا الزائرة-: يا ليلى أعطيني الطبق هذا، وكانت قد أوحت للخادمات أن اذهبن، فهي خططت خطة، وقالت لهن: اذهبن كلكن.
وقالت لها: يا ليلى أعطيني الطبق، تريد أن تكون خادمة لها.
فقالت لها: صاحبة الحاجة تقوم إلى حاجتها، لا أعطيك الطبق قومي أنتِ.
فألحت عليها، فلما أصرت عليها، صاحت وقالت: واذلاه، يا لتغلب، -تغلب قبيلتها- فسمعها ولدها وكان جالساً عند الملك عمرو بن هند في الرواق، فقام إلى سيف معلق في الرواق فأخذه وضرب به رأسه حتى برد، ثم عدا وسطا هو وقومه على كل ما في هذا الرواق فأخذوه وذهبوا، وهربوا إلى جزيرتهم، ثم أنشأ يقول: بأي مشيئة عمرو بن هند تطيع بنا الوشاة وتزدرينا تهددنا وأوعدنا رويداً متي كنا لأمك مقتوينا؟! يعني: متى كنا خداماً لأمك؟! إذاً: هذا كان حال العرب في الجاهلية، وهذه لا شك أنها خصائص فطرية ليست بالسهلة.
وأذكر -أيها الإخوة- على سبيل المثال في مجال الكرم -مثلاً- العربي حتى الآن والمسلم كريم، وفي بلاد الكفار لا يعرفون شيئاً اسمه الكرم، بل إنهم إذا رأوا مسلماً يجود بالمال لغيره ضحكوا به، وقالوا: هذا مجنون، كيف يعطي المال بدون مقابل؟! فهم لا يتذوقون طعم الأخلاق الفاضلة؛ فضلاً عن أن يعملوا بها.
أما لما جاء الإسلام ظهر صدق العرب في أمور؛ حتى الذين كانوا يحاربون الإسلام ظهر صدقهم، مثلاً: سهيل بن عمرو لما جاء النبي صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم بعد ما اتفقوا على كتابة الكتاب، قال: {اكتب هذا ما صالح عليه محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: لا تكتب رسول الله، فوالله لو نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت، ولا قاتلناك} فكانوا صرحاء، أي: الكافر منهم صريح في كفره، والمؤمن صريح في إيمانه.
ولذلك كان المنافقون في المدينة غالبهم من اليهود، ولم يوجد في مكة منافق، بل إن في صحيح مسلم: {أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوماً من الأيام جالساً تحت شجرة نائم، فجاءه رجل من الأعراب، اسمه غورث بن الحارث وهو مشرك، فرفع السيف على النبي صلى الله عليه وسلم وهو نائم، فاستيقظ النبي صلى الله عليه وسلم والسيف في يده، فقال يا محمد: من يمنعك مني؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الله، فسقط السيف من يده، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم السيف ومده، وقال: من يمنعك مني؟ قال: لا أحد؛ يا محمد! كن خير آخذ.
قال: تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله -والسيف أمامه الآن، قال: لا -فهو لم يخف من الموت- قال: ولكن أعاهدك أن لا أقاتلك، ولا أكون مع قوم يقاتلونك.
فخلى سبيله النبي صلى الله عليه وسلم} .
إذاً هذا دليل أن هذا الرجل ليس عنده استعداد للنفاق، فهو إما مسلم صريح، أو كافر صريح.
عكرمة بن أبي جهل رضي الله عنه قاتل النبي صلى الله عليه وسلم كما هو معروف ثم أسلم، وفي معركة اليرموك ضايقوا عكرمة، وضايقوه، وضايقوه، وتألبوا حوله حتى أرادوه أن يفر من المعركة، فقال: [[قاتلت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا في الكفر في مواطن كثيرة، وأفر منكم اليوم!؟ لا والله، من يبايعني على الموت؟ فبايعه خلق على الموت، فصار يضرب ويقاتل بسيفه، حتى أثبتوه بالجراحة، ثم قتلوه رضي الله عنه]] يقول: غير معقول أني أفر من المعركة، وأنا بالأمس أقاتل الرسول عليه الصلاة والسلام، والآن بعد أن هداني الله للإسلام أفر من أمام الروم.
ولذلك أثنى الرسول صلى الله عليه وسلم على قبائل كثيرة من قبائل العرب، والكلام في هذا يطول.
من القبائل التي أثنى النبي صلى الله عليه وسلم عليها قريش قال: {الناس تبع لقريش مسلمهم تبع لمسلمهم، وكافرهم تبع لكافرهم} .
كما أثنى صلى الله عليه وسلم على أسلم فقال: {أسلم سالمها الله، وغفار غفر الله لها} .
وعلى الأنصار، وجهينة، ومزينة، وأشجع، وبنو تميم، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم عن بني تميم: {إنهم أشد الناس على المسيح الدجال} .