قحط المطر

ولما قحط المطر وأجدبت الأرض وجاءه رجل -كما هو معروف في الصحيح في حديث أنس - فقال: {يا رسول الله، هلكت الأموال، وانقطعت السبل، فادع الله أن يغيثنا، فرفع الرسول عليه الصلاة والسلام يديه إلى السماء، وهو على المنبر، وقال: اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، قال: فوالله ما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم من على المنبر، إلاَّ والمطر يتقاطر من لحيته عليه الصلاة والسلام} .

هكذا استسقى عليه الصلاة والسلام، ومدحه عمه أبو طالب، فقال: أبيض يستسقى الغمام بوجهه ثمال اليتامى عِصمةٌُ للأراملِ يعوذ به الهُلَّاك من آل هاشمٍ فهم عنده في خيرة وفواضلِ ومن بعده لما قحط المطر، وأجدبت الأرض، جاء الناس إلى عمر يشكون إليه، فقال عمر: [[اللهم إنا كُنا نستشفع إليك بنبيك محمد صلى الله عليه وسلم فتسقينا، وإنا نتوسلُ إليكَ بِعَمِّ نبيك صلى الله عليه وسلم -بـ العباس - قم يا عباس فادع، فقام العباس فدعا، وقال: اللهم إنه ما نزل بلاءٌُ إلا بذنبٍ ولا رُفع إلاَّ بتوبة، واستغفر الله عز وجل، فما انتهى من دعائه، حتى نزل المطر، وأغاث الله المسلمين]] .

هكذا ظل المسلمون في كل زمان، إذا نزلت بهم نازلة، استسقوا الله عز وجل فأغاثهم وأسقاهم، ولعل من طريق ما يروى ويساق في هذا، ما نُقل عن المنذر بن سعيد، وهو من علماء الأندلس الكبار، في عهد بني أمية.

فقد قحط الناس في بعض السنين، آخر مدة عبد الرحمن الناصر، فأمر الحاكم، المنذر بأن يخرجَ إلى الصحراء ويستسقي، ويطلب من الله عز وجل أن ينزل للناس المطر، وصام الرجل أياماً، وتأهب واجتمع الناس في مصلى يقال له: مصلى الربض خارج المدينة، اجتمعوا فتأخر عليهم العالم المنذر بن سعيد، ولم يخرج إليهم، والأمير ينظر من الشرفة -يطل عليهم من قصره- ينظر حال الناس، ثم خرج هذا العالم متخشعاً، متضرعاً، متواضعاً، وقام ليخطب على المنبر، فلما رأى حال الناس، وما هم فيه من الضعف والحاجة بكى وأجهش، وغلبته تلك الحال ونشج وانتحب، ثم بدأ يخطب، فقال: سلامٌ عليكم، ثم بعد ذلك غلبه ما يجد، فلم يستطع أن يكمل، ولم يكن هذا من عادته، بل كان خطيباً لا يُشق له غبار، لكنه من شدة حاله، لما قال سلامُُ عليكم، لم يستطع إن يكملها، ثم استأنف بعد ذلك، وهو شبه حسير، فنظر إلى الناس، وقال: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام:54] ثم قال: استغفروا ربكم، ثم توبوا إليه، وتقربوا بالأعمال الصالحة، فضج الناس وهو يتكلم بكلام متقطع من شدة البكاء، فضج الناس بالبكاء، وجأروا بالدعاء، فلم ينفض القوم، حتى نزل على الناسِ غيثٌ عظيم.

واستسقى مرة من المرات، فجعل يهتف بالخلق: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ} [فاطر:15-16] فهيج الناس على البكاء ونزل المطر.

ومره ثالثة: جاءه رسول الأمير يقول له: الأمير يأمرك بأن تخرج للاستسقاء، فقال: ماذا صنع الأمير، قبل أن أخرج لابد أن أعرف ماذا صنع؟ هل غير المنكرات؟ هل أبطل المفاسد؟ هل أزال المكوس والضرائب التي أثقلت كواهل الناس؟ هل انتهى عن المعاصي؟ هل حكم بين الناس بكتاب الله وسنة رسوله؟ هل أزال المظالم؟ هل ولى على الناس العدول الأخيار الأكفاء؟ وهكذا… انطلق يتساءل، ماذا صنع الأمير؟ فقط يأمرنا بأن نستسقي كل يوم أو كل أسبوع!! لا أذهب حتى أعرف ماذا صنع؟ فقال له: إنني ما رأيت الأمير منكسراً أشد منه هذا اليوم! يقول الرسول -رسول الأمير-: إنه قد خرج من المظالم، وتصدق بمالٍ كثير، ولبس أخشن الثياب، وأبعدها عن الترف والزينة، وأنه قد سجد في التراب، وعلا نحيبه، وارتفع صوته، وهو يخاطب الله عز وجل، ويقول: يا رب هذا أنا، ناصيتي بيدك، أتراك تعذب الرعية بذنبي، وأنا لا أفوتك يا رب! فلما سمع المنذر بن سعيد هذا الكلام، قال للخادم الذي معه: احمل الممطرة -الممطرة بمعنى: الشمسية الآن التي تقي من المطر- إذا خشع جبار الأرض، رحم جبار السماء.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015