وأما النوع الثاني من العقوبات الدنيوية: فقد تكون بأيدي بعض الخلق، وبأيدي بعض الناس، كما قال الله عز وجل: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا} [التوبة:52] يعني: قل يا محمد للكفار: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ} [التوبة:52] إما النصر أو الشهادة: {وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ} [التوبة:52] والعذاب من عنده تعالى قد يكون خسفاً، وقد يكون زلزالاً، وقد يكون بركاناً، وقد يكون فيضاناً، وقد يكون قحطاً، وجدباً، وجفافاً: {وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا} [التوبة:52] .
إذاً هذا نوع ثانٍ من العذاب، بأيدينا، يعني: بسيوف المؤمنين، وبسهامهم، وبرماحهم، وبقذائفهم، وبجهادهم، فيبتلي الله تعالى الكفار بالمؤمنين يعذبهم بهم، حيث ينتصر المؤمنون على الكافرين فيسومونهم ويقتلونهم ويأخذون أموالهم وما في أيديهم، ويستبيحون نساءهم، يعني: عن طريق السبي بسنته المعروفة، المهم أن هذا عذاب من عند الله تعالى، ولكنه بأيدي المؤمنين، كما قال الله عز وجل في آية أخرى: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ} [التوبة:14] .
إذاً: العقوبات التي تُصب على الكافرين بجهاد المؤمنين هي من عند الله عز وجل، ومثله العقوبات التي تصب على المؤمنين بأيدي الكافرين هي عقوبات من عند الله تعالى، فقد يسلط الله الكافر على الظالم أو الفاسق أو الفاجر يسومه سوء العذاب، كما سلط فرعون على بني إسرائيل: {يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ} [البقرة:49] .
فهذه عقوبة من عند الله عز وجل، أجراها على يد بعض خلقه، قد يجريها على يد المؤمن عقاباً للكافر، وقد يجريها على يد الكافر عقاباً للمؤمن إذا عصى أو فرط أو قصر.
ولا شك أن تسلط الأعداء على الأمم الإسلامية في هذا الزمان بأخذهم خيرات بلادهم، ونهبهم لها، وتسلطهم عليها، وخنقهم للأمة الإسلامية، واعتدائهم على أموالها وبلادها وأعراضها ودمائها وأنفسها، وكون كثير من بلاد الإسلام أصبحت لقمة سائغة في أيدي أعداء الدين، يفعلون بها ما يشاءون فيتحكمون فيها، وفي اقتصادها يرسمونه كما يشاءون، ويفرضون فيه من الاقتصاد الكافر ما يشاءون، أو في سياستها فيوجهونها وفق ما يخدم أغراضهم ومآربهم، أو في خيراتها وبترولها ومعادنها ونفائس ما وضع الله تعالى فيها من خيرات، أو تسلطهم على أموال المسلمين، أو تسلطهم على أنفس المسلمين، حيث يقتلونهم قتل عاد وإرم، كما نسمع مما يقع للمسلمين في بلاد فلسطين أو في أفغانستان أو في إريتريا أو في الفلبين أو في غيرها من بلاد الشرق والغرب؛ حيث أصبح سيف الكفار مسلطاً على رقاب المسلمين في أكثر بقاع الأرض، لا شك أن هذا كله عقوبات من الله عز وجل لعباده، وخاصة الذين خالفوا أمره، لقد أصبحت أمم الكفر تتحكم في بلاد الإسلام، حتى في أخص خصائصها، وأصبح المسلم محتاجاً إلى الكافر في كل شيء -مع الأسف الشديد- فمركبه من عنده، وملبسه من عنده، ومأكله في كثير من الأحيان من عنده، ومشربه من عنده، وسائل التبريد أو التدفئة أو التسخين أو النطق أو الكلام أو إلخ.
أو أي وسيلة يحتاجها المسلم، فهي في الواقع من إنتاج مصانع الكفار، بل أصبح المسلم يحتاجهم حتى في الأمور التي لا شك أن حاجة الأمة فيها إلى عدوها هي نوع من المسخ، فمتى عُرف -مثلاً- أن العدو يدفع عن عدوه أو يحميه، أو يحمي سياسته أو اقتصاده، أو يدافع عن بلاده، فهذا ما لم يعهد منذ فجر التاريخ، ولا شك أن حاجة المسلمين في هذه البلاد، وفي كل البلاد إلى أعداء الإسلام، في مثل هذه الأمور، وفي كثير من الأمور لا شك أنه نوعُ من البلاء والعقوبات الإلهية التي صبها الله عز وجل علينا، حتى نتوب إليه تعالى، ونراجع ديننا.
ولا شك أن واقع الأمة الإسلامية اليوم أشبه ما يكون بواقع الأمة الإسلامية في أيام صلاح الدين حين كان يقول الشاعر: أحل الكفر بالإسلام ضيماً يطول به على الدين النحيبُ فحقٌ ضائع وحمىً مباحٌ وسيفٌ قاطعٌ ودمٌ صبيبُ وكم من مسلمٍ أضحى سليباً ومسلمةٍ لها حرمٌ سليبُ وكم من مسجدٍ جعلوه ديراً على محرابه نصب الصليبُ دم الخنزير فيه لهم خلوقٌ وتحريقُ المساجدِ فيه طِيبُ أمورٌ لو تأملهنَّ طفلٌ لطفَّل في عوارضه المشيبُ أتسبى المسلمات بكل ثغرٍ وعيش المسلمين إذاً يطيبُ أما لله والإسلامِ حقُُ يُدافعُ عنه شبَّانُُ وشِيبُ فقل لذوي الكرامةِ حيثُ كانوا أجيبوا الله ويحكم أجيبوا إن التاريخ يُعيد نفسه، وبلاد الإسلام تتعرض لهجمات الأعداء وتسلطهم في كل جانب ومجال من مجالات الحياة يوماً بعد يوم، وما أخبار الأندلس حين تسلط عليها الأعداء من فرنسا وغيرها، فبدءوا يقصون ثوب الإسلام من الأندلس شيئاً فشيئاً؛ حتى طردوا المسلمين ونصَّروهم وجعلوا لهم محاكم التفتيش التي تمسخ المسلمين مسخاً، وتحرقهم إن أصروا على دينهم بالأفران، وتقتلهم شر قتلة، وما أخبار المسلمين في فلسطين أيضاً حين تسلط عليها اليهود ففتكوا بالمسلمين وقتلوهم، وأجروا الشوارع من دمائهم أنهارا -إلاَّ نموذجٌ لذلك، وكانت هي الأخرى نموذجاً لما حصل في الأندلس، كما قال القائل:- خلت فلسطين من أبنائها النُجب وأقفرت من بني أبنائها الشُهبِ طارت على الشاطئ الخالي حمائمهُ وأقلعت سُفن الإسلام والعربِ يا أخت أندلسٍ صبراً وتضحيةً وطول صبرٍ على الأرزاء والنوبِ ذهبتِ في لجة الأيام ضائعةً ضياع أندلسٍ من قبلُ في الحقبِ وطوحت ببنيك الصيد نازلةٌ بمثلها أُمَّةُ الإسلامِ لَمْ تُصَبِ وما أخبار أفغانستان وهي أندلس هذا الوقت إلا نموذج لذلك، فهي البلاد المؤمنة التي لم تُدنِّسْ أرضها قدم كافر، حتى أنها هي الدولة الوحيدة مع هذه البلاد التي لم يقم فيها كنيسة للنصارى، ومع ذلك تجتاحها جحافل الروس وعملائهم من الأفغان الشيوعيين، ويقع للمسلمين فيها من نهب الأموال وتدمير الأرض وأخذ الخيرات، وهتك الأعراض، وقتل النساء والأطفال مالا يخفى على أحد في هذا الوقت، وما هزائمنا نحن المسلمين في عام (48، 67) من الميلاد إلاَّ نموذج ودليل وعبرة من عند الله عز وجل، يقول الله عز وجل: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم:41] .
إذاً كما أن الله تعالى قد يسلط علينا القحط والجدب، أو أنواع المرض أو الفقر أو أي عقوبة إلهية، فقد يسلط الله علينا سيف العدو؛ حتى نعود إليه ونستكين إليه، ونتضرع، وننكسر بين يديه، يقول الله عز وجل: {وَمَا نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً} [الإسراء:59] ويقول سبحانه عن بعض المعرضين الضالين من عباده الغافلين: {وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَاناً كَبِيراً} [الإسراء:60] .