الضرر الرابع: فلنتصور أن أعداداً كبيرة من المجتمع آمنت بهذه القيم الجديدة والأخلاقيات الجديدة والمعايير الجديدة التي تلقتها من خلال الشاشة، فإننا سنجد بعد فترة أن المجتمع تحول إلى مجموعة من هؤلاء الأفراد، فكثُرت المخالفات والتجاوزات والانحرافات، وحينئذٍ كيف سيكون المجتمع؟! ولأضرب لذلك مثلاً: حين يكون المجتمع مجتمعاً محافظاً ملتزماً بالإسلام، فتخرج امرأة واحدة سافرة الوجه في الشارع وهي من أهل البلد، تجد أن الناس يسلخونها ويزلقونها بأبصارهم، وكل إنسان ينظر إليها، فالإنسان المتدين ينظر إليها شزراً واحتقاراً واستنكاراً، لظهورها بهذا المظهر المخالف لتعاليم المجتمع ولما يُمليه الإسلام، والإنسان المنحرف ينظر إليها بأية نفسية، قد ينظر إليها بنفسية المُعجب، وقد ينظر إليها بنفسية الإنسان الذي يشاهد شيئاً غريباً في المجتمع، فَيَنْشَدُّ إليه، المهم أن الأبصار تزلقها، فسرعان ما تُحس هذه المرأة بأنها بحاجة إلى أن تختفي عن الأنظار وتنزوي، ولا تعود إلى ما فعلت مرة أخرى، لكن حين تكثر هذه الظاهرة، وتخرج امرأة واثنتان وثلاث وأربع وعشر، فتصبح هذه الظاهرة عاديَّة، حينئذٍ سوف يشعر كثير من أفراد المجتمع بأنهم أمام ظاهرة يصعب مقاومتها، ويصبح هذا الوضع لا يسترعي الانتباه، ولا يشدُ نظر أحد، بل هو طوفان مكتسح، يعتقد الكثيرون أنه لا مرد له، وما الذي يحدث بعد ذلك؟ الذي يحدث هو أن يشعر الجميع أنهم -وهنا مكمن الخطر أيها الإخوة- بحاجة إلى سن أنظمة وقوانين وتشريعات جديدة تتلاءم مع هذا الواقع الجديد، وهكذا يتطور الأمر، من كونه خطأ يشعر الجميع بأنه خطأ إلى كونه أمراً واقعاً وبدأنا نلتمس المسوغات والمبررات لوجوده وعدم مقاومته.
ولا تستغربوا -أيها الإخوة- هذا الأمر، فإن النفوس قد تألف ما هو أشد وأعنف من ذلك.
أيها الإخوة أرأيتم لو حدثتكم أن في بلاد العالم الإسلامي من أقصاه إلى أقصاه، في كثير من البلاد المجاورة حانات يُباع فيها الخمر علناً، وتُحمى بقوة القانون والسلطة، وموقف الكثيرين ممن لا يعرفون هذا الأمر لا شك سيكون موقفهم موقف الاستغراب والاندهاش!! كيف؟! أمة مسلمة تحمي أم الخبائث بقوة القانون!! ويزداد اندهاش الإنسان إذا حُدث أن في تلك البلاد الإسلامية، التي تُعلن أن دينها الإسلام؛ ودستورها القرآن، وغالبية أهلها -إن لم يكن كلهم- من المسلمين، مواخير وبيوتاً للدعارة والبغاء، توضع عليها اللافتات، وتخضع للرقابة الصحية، وتنظمها الجهات المسئولة! لا شك أن الجميع سيقولون: إن هذا ضربٌ من الخيال، وإنه لا يوجد حتى في بلاد الكفر! فكيف يوجد في بلاد الإسلام؟! نعم؛ لأن هذا الأمر غريب ولم يوجد؛ أصبحت النفوس تتقزز منه، وتشمئز حين تسمعه.
لكن أسألكم مرةً أخرى: ما موقفنا حين نسمع أن في بلاد العالم الإسلامي من أقصاه إلى أقصاه بيوتاً تحارب الله عز وجل، وتتعامل بالمعاملات الربوية المحرمة التي هي أشد من الزنا، وأشد من شرب الخمر؟؟ وكيف لا تكون أشد، والله عز وجل يقول: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة:279] لكن هذا الأمر، لم يعد يلفت نظر أحد! لماذا؟! لأنه أصبح أمراً واقعاً، بل تحولت القضية إلى مسار آخر، تحولت القضية إلى أن أصبحنا نبحث عن فتاوى ومسوغات، وكلام لبعض أهل العلم، أو كلام لبعض أهل الجهل أيضاً، فالمهم شيء يبيح لنا أن نتعامل بهذه المعاملات الربوية.
ولذلك أصبح يوجد بين المسلمين اليوم من يكتبون النشرات، ويلقون المحاضرات، ويأخذون كلام أهل العلم، ككلام ابن حزم، وابن تيمية، وابن القيم، والشاطبي، وفلان وفلان ويحاولون أن يجيروه ويوظفوه، للهدف الذي يسعون إليه، وهو محاولة إباحة الفوائد الربوية، مع أن خلاصة الكلام في مسألة هذه الفوائد، أنها محرمة بإجماع الفقهاء، وقد ورد فيها عشرات الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين والسنن والمسانيد وغيرها، فليس فيها مجال للكلام والأخذ والرد، وفارق كبير بين إنسان يأخذ الربا ويقول: أستغفر الله، وبين إنسان يأخذ الربا ويقول: هذا حلال، أحل من الماء البارد! فرقٌ وأيُّ فرق بين هذين!! ولذلك قال الله عز وجل {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:275] قال أهل العلم من عاد يعني: إلى استباحة الربا وإلى القول بأن البيع مثل الربا، فأولئك أصحاب النارِ هم فيها خالدون.
لكن لماذا بدأنا نبحث عن المسوغات؟؟ لأن الربا أصبح أمراً واقعاً في حياة الأمة الإسلامية؛ لأسباب كثيرة جداً ليس هذا مجال بسطها، فتحول كثير من المهزومين فكرياً إلى البحث عن مسوغات.
وهكذا الشأن فيما يتعلق بموضوع هذه الأخلاقيات والقيم الجديدة التي بثتها هذه الأفلام، تتحول من كونها أخطاءً نستغفر الله منها إلى كونها واقعاً نلتمس له المسوغات والمبررات، ولذلك ستجد من يُنادي (باسم الإسلام!) بإباحية الاختلاط، وستجد من ينادي (باسم الإسلام!) بإباحية السفور والتبرج، بل ستجد من ينادي باسم الإسلام! ويقول: إن قضية اللباس قضية عُرفية تخضع لعادات المجتمعات، فإذا تعارفت المجتمعات على لباس مُعين، وأصبح مألوفاً، فلا شيء فيه، وإذا قال إنسان مثل هذا القول، حتى ولو كان أُمياً، لا يفك الحرف -كما يقولون-، فإن كثيراً ممن يصطادون في الماء العكر، يَفرحون بهذه الفتوى، ويحولون هذا الإنسان إلى عالم جليل، حر الفكر، مجدد!! يضفون عليه من الهالات ما يجعل الناس يتقبلون كلامه، ولذلك تكون مثل هذه الفتاوى أيضاً فرصة لمن يحبون الظهور بأقرب وسيلة وبأقرب طريقة.
يكفيك أن تصدر كلاماً أو مقالاً حول قضية من هذه القضايا المقررة في المجتمع فتنكرها، وتقرر شيئاً مخالفاً للأصول فيها، حتى يفرح بذلك الكثير من المهزومين، ويصفقوا لك وينشروا اسمك بكل وسيلة.