عدم ضرب أقوال المفتين بعضها ببعض

الأدب الخامس: عدم ضرب أقوال المفتين بعضهم ببعض: وذلك لأن العلماء مجتهدون.

وكلهم من رسول الله ملتمس غرفاً من البحر أو رشفاً من الديم وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اختلفوا حتى والرسول صلى الله عليه وسلم حي بينهم، فلما قال عليه الصلاة والسلام في المتفق عليه: {لا يصلين أحد العصر إلا في بنى قريظة} فبعضهم صلى في الطريق، وبعضهم صلى في بني قريظة، وما عنف أحداً منهم؛ فاختلفوا في حياته عليه الصلاة والسلام ولم يعنف أحداً منهم.

إذاً تأكد -يا أخي الكريم- أن الساعة ستقوم، والناس مختلفون لا شك في هذا، ولا تعتقد أنه سيأتي يوم يرتفع فيه الخلاف ويصبح الناس على رأي واحد، لا، هذا لا يمكن أن يكون إلا في حالة واحدة: إذا عم الجهل، وطم وأصبح الناس كلهم جهال فهذا موضوع آخر، أما ما دام أنه يوجد علماء فلا بد من خلاف، وهذا لا ينقص من قيمة العالم ولا يضر بالشرع، ولا يؤدي إلى اضطراب العامة والناس، لكن بشرط أن يعرف العامة وغير المختصين وغير العلماء كيف يتعاملون مع هذا الخلاف؟ أعني أنك أنت أحد رجلين، فأنت مطالب وباختصار أن تأخذ بالرأي الأقوى والأصح، وستقول لي: كيف أعرف أصح الأقوال؟ هل أنصب نفسي حكماً بين العلماء؟ نقول: لا تنصب نفسك حكماً بين العلماء، إنما أنت تتكلم في مسألة معينة أو فتوى معينة، فإما أن تكون طالب علم عندك معرفة بالأدلة وبعض الأشياء بحيث تستطيع أن تقول: يبدو لي أن هذا الأمر أقوى بسبب كذا وكذا، وأن دليله أقوى أو حجته أكثر أو ما أشبه ذلك، فتأخذ به ولا عليك، وإما أن تقول: أنا عامي بحت، لا أورد الأمور ولا أصدرها، ولا أعرف الأقوال وأميز بعضها من بعض، فحينئذ نقول: انظر من هؤلاء العلماء من تعتقد أنه أعلم وأدين وأورع، فخذ برأيه واترك الباقى، ولا تشتغل بضرب الأقوال بعضها ببعض، فتقول: هذا قال كذا، وهذا قال كذا، وفلان خالفه، وهذا فيه، وهذا ليس فيه، إنما الذي يهمك هو ما تتعبد به أنت لله عز وجل، ثم دع أمر الناس للناس، ثم لا تأخذ هذا القول، وتفتي به الناس، وكأنك أصبحت مالكاً في المدينة، أو أبا حنيفة، لا!! بل خذ القول واعمل به في شأن نفسك واترك أمر الناس للناس، كل واحد منهم يفعل ما فعل.

إذاً أنت أحد رجلين: إما طالب علم تبحث عن الدليل، وإما عامي تنظر أحسن العلماء في ظنك وأعلمهم وأتقاهم وتأخذ بقوله، هذا هو الذي يسعك أمام اختلاف العلماء.

وفي شهر رمضان مثلاً تثور قضايا كثيرة جداً، في موضوع الاختلاف، نذكر منها على سبيل المثال: 1- قراءة الفاتحة خلف الإمام: موضوع قراءة الفاتحة وراء الإمام في الصلاة، حتى إنه -وربما في المسجد الواحد- يأتي عدد من المشايخ كل واحد منهم يفتي بفتوى مخالفة للآخر، عالم يفتي مثلاً: بأن قراءة الفاتحة وراء الإمام في الصلاة الجهرية خاصة في التراويح والقيام ليست لازمة، فإذا كان الإمام لا يسكت بعد الفاتحة فاسكتوا أنتم ولا تقرءون، وآخر يقول: لا، إن قراءة الفاتحة لا بد منها ولا يسع الإنسان أن يترك قراءة الفاتحة لا في سرية ولا في جهرية، لا في فرض ولا في نفل، وكلاهما قولان معروفان لأهل العلم، وليس أمراً جديداً، بل هذا معروف منذ عهد الصحابة، والصحابة أنفسهم مختلفون في هذه المسألة بالذات، فلا تقل أنت: فلان قال، وفلان قال، وبعض الناس يقولون: تحيرنا ماذا نأخذ وماذا ندع؟ فنقول: خذ من تعتقد بأنه أقوى دليلاً أو من تعتقد بأنه أعلم.

2- زكاة الحلي: مسألة ثانية: يكثر فيها القيل والقال وهي مسألة زكاة الحلي المستعمل الذى تستعمله المرأة، سواء أكانت تلبسه أم تعده للاستعمال، هل تزكيه أو لا تزكيه؟ بعض العوام يقول أحدهم: أنا سمعت الشيخ ابن حميد رحمه الله يقول: إنه لا زكاة فيه، وآخر يقول: يا أخي أنا سمعت الشيخ ابن باز يقول: فيه زكاة، ومثله الشيخ ابن عثيمين يقول: فيه زكاة، نحن نقول هذا صحيح وهذا صحيح، الشيخ عبد الله بن حميد رحمه الله كان يرى أن لا زكاة فيه، والشيخ عبد العزيز بن باز والشيخ محمد بن عثيمين رحمهما الله يريان أن فيه زكاة، وليس القضية قضية ابن حميد وابن باز وغيرهما.

لا، القضية قضية أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فقد اختلفوا في هذه المسألة، فمنهم من يرى أن فيه زكاة ومنهم من لا يرى، وكذلك الأئمة الأربعة اختلفوا، فـ أبو حنيفة يرى أن فيه زكاة، والجمهور لا يرون أن فيها زكاة، وكذلك العلماء الكبار اختلفوا، فـ ابن تيمية وابن القيم وهم من كبار الأئمة لا يرون فيه زكاة، وهم يوافقون الجمهور على ما ذهبوا إليه وهكذا.

وفى هذه المسألة عدة كتب فقد رأيت خلال ثلاث سنوات -تقريباً- أنه طبع ثلاثة كتب في مسألة زكاة الحلي، إذاً المسألة ليست جديدة - والقضية ليست جديدة، وإنما يبقى دورك أنت وقضيتك أنت من هذا الخلاف، وليس دورك -إن كنت عامياً- أن تضرب الأقوال بعضها ببعض، إنما تأخذ المرأة المسلمة، أو يأخذ الرجل لزوجته الرأي الذي يعتقد أنه أقرب للصواب، فإن كان لا يستطيع أن يميز، فليقلد من يعتقد أنه أعلم، وانتهى الأمر، أما طالب العلم فلا بأس أن يناقش ويبحث ويأخذ ويعطي.

وأيضاً: مما يجب أن يراعى في هذه المسألة، أن نعي أن الخلاف ليس فيه حرج، فبعض الناس- مثلاً: استقر في ذهنه أن الحلي فيه زكاة، فإذا سمع أحداً يفتي بأن الحلي ليس فيه زكاة وجد في نفسه عليه، وقال: فلان هداه الله ليته ما تكلم، لماذا؟ لأنه أفتى أن الحلي لا زكاة فيه، لماذا يا أخي؟! من قال لك: أن القول الذى تعتقده هو الصواب عند الله، قد تكون اعتقدت أن الأمر صواب، والصواب غيره عند الله، نحن نوافقك أنك تأخذ بقول لنفسك، ممن تعتقد أنه عالم دين، أو تعتقد أن دليله أقوى، أما كونك تتحكم وتريد أن يكون الناس وفق الرأي الذى تميل إليه فهذا ليس بلازم.

3- المفطرات في رمضان: وقل مثل ذلك بالنسبة للمفطرات في رمضان، وكثيراً ما يقع الناس في حيرة من شأنهم، آلكحل يفطر أم لا يفطر؟ آلقطرة تفطر أم لا تفطر؟ آلحجامة بسحب الدم للتحليل أو لإعانة مريض تفطر أم لا تفطر؟ 4- طواف الوداع للمعتمر: وهناك قضية أيضاً تكثر في هذا الشأن: وهي قضية طواف الوداع للمعتمر أهو واجب أم غير واجب؟ قد يقول قائل: عالمان في الحرم المكي أحدهما في شرقه والآخر في غربه، أحدهم يفتي بوجوب طواف الوداع، والآخر يفتي بأنه ليس بواجب، تقول له: نعم، ولو كان أبو بكر وعمر وعثمان وعلي -رضى الله عنهم- في المسجد الحرام لاختلفوا كما اختلف هذان العالمان، والله أعلم.

فالقضية ليس فيها إشكال، القضية فيها رحمة بهذه الأمة، وهذا ما أراد الله أن يكون، وليس فيه حرج، إنسان اجتهد فرأى فيها الوجوب، وآخر اجتهد فرأى عدم الوجوب، فطالب العلم يأخذ بالأدلة، والعامي يقلد من يعتقد بأنه أعلم وأدين، وانتهى الأمر ولا داعي لضرب الأقوال بعضها ببعض.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015