الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: أيها الأحبة في الله: النفس جزء من الأجزاء الرئيسية في هذا الإنسان، والإنسان يتكون من خمسة أجزاء رئيسية، ومن المؤسف جداً أن الناس لا يفهمون إلا جزءاً واحداً، وهو الجزء الغير مهم، أما الأجزاء الرئيسية المهمة التي لها أثر في تسيير حياة الإنسان، إما إلى النار وإما إلى الجنة، وإما إلى الهلاك وإما إلى النجاة، وإما إلى السعادة وإما إلى الشقاء، فهي مهملة في حياة الإنسان، ولا يعرف الإنسان إلا الشيء الذي لا يقوم به مدح ولا ذم، ولا يتعلق به نجاة ولا يتعلق به هلاك.
هذه الأجزاء الرئيسية الخمسة أول جزء منها: الجسد: وهذا هو المعروف عند الناس، ولذا يحرص الناس على الجسد حرصاً شديداً، إذا مرض عالجوه، وإذا جاع أطعموه، وإذا عطش سقوه، وإذا برد أدفئوه، وإذا شرب بالحرارة بردوه، وإذا تعب أراحوه، المهم لا يعرفون إلا هذا.
يا خادم الجسم كم تسعى لخدمته أتعبت نفسك فيما فيه خسران
أقبل على الروح واستكمل فضائلها فأنت بالروح لا بالجسم إنسان
الجسد ما ورد في كتاب الله ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم مدح لصاحبه، بل ورد العكس، ورد في مسلم قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أجسامكم) هذه ليست محل نظر الرب، كون صورتك حسنة، وجسمك متين، أو قوي، أو كبير، أو أبيض، أو جميل، هذه لا تنفع عند الله (ولكن إلى قلوبكم وإلى أعمالكم).
بل عاب الله عز وجل على المنافقين ضخامة أجسادهم قال: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [المنافقون:4].
وألغى الإسلام قضية الافتخار والاعتداد بالأجسام والألوان، والأعراق والأنساب، وقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات:13] والتقوى عمل قلبي، وعمل نفسي، وليست عملاً جسدياً.
ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم عندما جاء على مجتمع لا يقيم اعتباره إلا لهذه الأشياء، أعلن الوحدة للجنس البشري، وحطم هذه المعايير، وأقام المعيار الصحيح وهو التقوى، حتى انتشر هذا المفهوم في المجتمع الذي لم يكن يقبله ولا يمكن أن يقبله، لكن قوة التأثير -تأثير العقيدة- في تحويل النفوس البشرية أزاحته حتى جعلت عمر بن الخطاب وهو القرشي المخزومي يقول: [أبو بكر سيدنا أعتق بلالاً سيدنا] سيد من بلال وهو عبد حبشي؟! يباع بيع الرقيق، اشتراه أبو بكر وأعتقه، صار سيداً لـ عمر، بِمَ ساده؟! بالجسد! باللون الأسود! بالشعر المحبب! لا.
لكن بالإيمان العميق، بالنفس المشرقة، بالقلب المنير، يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (إيه يا بلال! والذي نفسي بيده، إني لأسمع قرع نعليك في الجنة- بلال عبد حبشي، لكن رسول الله يسمع قرع نعاله في الجنة، وهو في الدنيا حي- فماذا تصنع يا بلال؟ قال: لا شيء يا رسول الله غير أني كلما أحدثت توضأت، وكلما توضأت صليت لله ركعتين).
عبد في الأرض، لكن له ذكر في السماء له عمل دائماً على طهارة، دائماً في نظافة وفي تزكية، وكلما تطهر، صلى ركعتين، يصل الأمر بالسماء في كل لحظة وفي كل حين.
وابن مسعود الهذلي راع من رعاة مكة، وليس له قيمة عند الناس، أمسك بأذنه أبو جهل لما سمع أنه أسلم، وكاد أن يقطعها من رأسه، وقال: صبأت يا رويعي الغنم، يقول: [فما رددت عليه، لا أقدر أن أقول شيئاً، ولو قال شيئاً لقتله، يقول: ثم أخذني وسحبني إلى الجدار، وأخرج مسماراً من جيبه، ودق أذني في الجدار، وعلقني بمسمعي في الجدار.
يقول: وسال الدم، ومر الصبيان يضحكون عليَّ ولا أحد يستطيع أن يفكني، حتى مر أبو بكر رضي الله عنه ففكني ونزع المسمار والدم يسيل من أذني].
وتمر الأيام، وفي المدينة يصعد ابن مسعود إلى شجرة من أجل أن يأخذ سواكاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم فتهب الريح فتكشف عن ساقيه وكانتا دقيقتين، وكان جسمه قصيراً من أصغر الصحابة، فضحك بعض الصحابة وتبسم النبي صلى الله عليه وسلم من دقة ساقيه، وقال: (أتعجبون من دقة ساقي ابن مسعود؟ والذي نفس محمد بيده لهما في الميزان عند الله أثقل من جبل أحد) هاتان ساقان دقيقتان، لكنهما تحملان قلباً قوياً.
وبعض الناس ساقه مثل ساق الحمار لكنها لا تنفعه، وبعض الناس ساقه مثل ساق البغل لكنها لا توقظه للصلاة، يصول ويجول في الملعب وإذا جاء وقت الصلاة نام فلا يقوم، هاتان الساقان إلى النار، هذا جسم -والعياذ بالله- إلى جهنم، هذا نجم لكن حقه الرجم، هذا بطل لكنها بطل إلى النار.
إن البطولة والنجومية والرفعة في أن تملأ هذا القلب بمفاهيم الكتاب والسنة، وتملأ هذا القلب بالإيمان، ثم تترجم هذه المفاهيم في سلوك وعمل واستقامة وعبادة ودعوة، وفي خير للناس وللأمة وللمجتمع.
وتدور الأيام دورتها، وتأتي معركة بدر، ويخرج ابن مسعود مقاتلاً في جيش الإسلام، وما مر آخر اليوم إلا وأبو جهل يتشحط في دمه، قد ضربه معاذ ومعوذ ابني عفراء، بضربتين مختلفتين، لكنه لم يمت، ما زال يلفظ أنفاسه، وإذا به يئن من الموت الذي في بطنه، فقد قطعوا بطنه بالسيوف، فقام ابن مسعود على صدره، وأخرج سيفه وأمسك بلحيته، فقال له أبو جهل: لقد ارتقيت مرتقىً صعباً يا رويعي الغنم، يقول: صعدت على مكان لا أحد يصعد عليه -على صدره- قال: فإذا قطعت رأسي فأطل عنقي، أي: لا تقطعني من أعلى الرقبة، اقطعني من أسفل الرقبة، حتى يكون الرأس كبيراً بالرقبة يريد أن يكون رأسه كبيراً حتى وهو ميت، انظروا الكبرياء والأنفة -والعياذ بالله- الغطرسة حتى في الموت، فقام وجز رأسه ثم سحب رأسه يريد أن يذهب به إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليخبره بموت عدو الله -فرعون هذه الأمة- فما استطاع أن يحمله؛ لأن ابن مسعود رجل صغير، والرأس هذا رأس ثور -رأس كبير- لا يحمله إلا اثنان من الرجال، فقام وأخرج السيف وخرم في مسمع أبي جهل وربطه بحبل، وأخذ يدهد رأسه وراءه، حتى رأى النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس في السقيفة في العريش، ولما رأى الرأس قال: (ما هذا يا ابن مسعود؟! قال: هذا رأس عدو الله أبو جهل، قال: يا ابن مسعود! الأذن بالأذن، والرأس زيادة).
أي: مسمع في مكة بمسمع هنا، والرأس مكسب؟ خرم أذنك وأنت خرمت أذنه والله أعطاك رأسه فوق هذا، هذا ابن مسعود دقيق الساقين، والجسد لا يعمل على خدمته إلا بمقدار ضرورته، لا نقول: لا تخدم الجسم، لا.
اخدم الجسم، أنت مأمور بهذا، أنك إذا مرضت تتعالج، وإذا جعت تأكل، هذا من الدين، لكن ركز على الأجزاء المهمة فيك.