المعلم الثالث من معالم الدعوة إلى الله: أن الداعية إلى الله عز وجل لا يتكلم بلسانه فقط، وإنما يتكلم من لسانه ومن قلبه، فإن الدعوة إذا خرجت من اللسان لم تتجاوز الآذان، أما إذا خرجت من القلب وصلت إلى القلب، هذه نظرية رياضية، كلام من اللسان يأتي إلى الأذن ويرجع؛ لأنه من اللسان إلى الأذن، لكن كلام القلوب، يخترق الآذان ويصل إلى القلوب، ولذا إذا أردت أن ينفع الله عز وجل الناس بكلامك فلا بد أن تتكلم من قلبك، بمعنى: أن تكون معتقداً كلامك الذي تقوله، ومطبقاً للشيء الذي تدعو الناس إليه، فلا تدعو الناس إلى ذكر الله وأنت غافل، ولا تدعو الناس إلى الصلاة وأنت تارك للصلاة، لا تدعو الناس إلى ترك الزنا وأنت تزني، لا تدعو الناس إلى ترك الربا وأنت مرابٍ، لا تدعو الناس لغض البصر وأنت تفتح بصرك إلى الحرام، لأن معناه: أنك كذاب، ولهذا يقول الله عز وجل: {كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:3] ويقول: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة:44] تدعو الناس وتنسى نفسك؟ ثم قال: {أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة:44] أين عقولكم؟!! الذي يدعو الناس وينسى نفسه ليس لديه عقل، وليس معنى هذا: أنك تقعد لا تدعو الناس ولا تدعو نفسك، لا.
هذا فيه دعوة إلى دعوة نفسك أولاً، ودعوة غيرك في المرحلة الثانية.
ولذا فالداعية يدعو من قلبه، ومعنى هذا -أيها الإخوة- أن الكلام ليس بمجرد البلاغ، ولكن بحرقة وهمّ ورغبة، وحرص على هداية الناس؛ لأن بعض الدعاة وبعض المتكلمين يقول: إن عليك إلا البلاغ، أنا سوف أقول ولا يهمني، والمستمعون يقولون: ونحن ما علينا إلا السماع، فهذا عليه البلاغ وأولئك عليهم السماع، والعمل أين هو؟ هو لا يعمل، وهم لا يعملون، فالصحيح أن نقول: نحن علينا البلاغ بعد أن نتمسك بالعمل، والناس إذا رأوا الداعية متمسكاً بالكلام الذي يقوله فإنهم يعملون بكلامه، لماذا؟ لأن الأعمال أكثر تأثيراً في القلوب من الأقوال.
انظر أي داعية أو متكلم أو عالم، فإن الناس يراقبون سلوكه، فإن وجدوا تطابقاً بين السلوك وبين الكلام الذي يقوله أكد المعاني التي يقولها، وإذا وجدوا أي تنافر أو اختلاف ذهب كلامه من قلوبهم كما يزل الماء من الحجر أو الصفا، يقولون: هذا كذاب وليس صادقاً، ولذا تنظرون أنهم يراقبون الداعية -مثلاً- عند بذل المال، ويراقبونه إذا مر في السوق فإذا رأوه يغض بصره قالوا: والله هو صادق الآن ما شاء الله، لكن إذا رأوه وهو ينظر قالوا: هذا دجال، لماذا؟ لأنه يتكلم بلسانه ولا يتكلم بقلبه، فلا ينبغي أن يكون هم الداعية فقط هو تسطير الكلام، وشغل الوقت بدون حدث، وإنما يجب أن يكون همه أن يعمل الناس بهذه الدعوة، وأن يتمسك الناس بهذا الدين، حتى يفوزوا في الدنيا وفي الآخرة، وحتى ينجوا من عذاب الله في الدنيا وفي الآخرة، لعلم الداعية بمصيرهم وعاقبة أمرهم إن هم أطاعوا الله أو إن هم عصوه.
القضية ليست سهلة -يا إخوان- القضية قضية جنة ونار، قضية سعادة أبدية أو شقاء أبدي، الذي يطيع الله عز وجل يسلك سبيل النجاة، والذي يعصي الله يسلك سبيل الهلاك، ولذا فالداعية يعرف هذا، عنده في قلبه حرقة من أجل أن يتمسك الناس بالطاعة حتى يفوزوا، ومن أجل أن يترك الناس المعصية، حتى لا يضلوا ولا يهلكوا، ومن هنا -أيها الإخوة- نعلم مدى تأثير الآيات التي توضح حال الرسول صلى الله عليه وسلم عند دعوته لأمته، كان يتحسر صلوات الله وسلامه عليه، حتى قال الله له: {فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} [فاطر:8].
ويقول: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ} [الكهف:6] أي: مهلكها {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً} [الكهف:6].
ويقول عز وجل: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ} [الأنعام:33] ويقول عليه الصلاة والسلام في حديث صحيح: (مثلي ومثلكم كمثل الفراش التي تتساقط في النار فأنا آخذ بحجزكم وأنتم تقتحمون).
الشخص إذا أوقد ناراً فمن حين أن يوقد النار تأتي الفراش إلى النار من بعيد من أجل أن ترى؛ لأنها تعيش في الظلام، فإذا وجدت نوراً جاءت إليه ولكنها لا تعلم أن هذا النور ناراً، فتأتي الفراشة وتقع، وتلك تقع، فماذا يصنع الذي حول النار؟ يبعدها، وهي ترفض، هذا الرسول صلى الله عليه وسلم مثله يبعد الناس عن النار والناس يرفضون، ولهذا يتقطع فؤاد النبي صلى الله عليه وسلم حزناً ورحمة بهذه الأمة التي تقتحم النار وهي لا تدري بالمصير، وهذا شأن الداعية الذي يدعو الأمة، فيدعو بحرارة، ويدعو بحرقة، ولا يدعو بلسان فقط، وإنما يدعو بقلب مؤثر، وبمعاناة وهم، وبحرص شديد على أن يسلك الناس هذا السبيل، وليس له مصلحة أصلاً إلا هداية الناس، وما أعد الله له من أجر إن اهتدوا على يديه؛ لأن من اهتدى على يدي أي داعية يأتي هذا المدعو المهتدي يوم القيامة في صحائفه، لا يعمل عملاً إلا ولذلك الأساسي صورة طبق الأصل من عمله، دون أن ينقص من أجره شيء، كما جاء في الحديث: (من دل على هدى كان له أجره وأجر من عمل به إلى يوم القيامة دون أن ينقص من أجورهم شيء، ومن دل على ضلالة -والعياذ بالله- كان عليه وزرها ووزر من عمل بها دون أن ينقص من أوزارهم شيء إلى يوم القيامة) هذا المعلم الثالث: أن يتكلم الداعية من قلبه ولسانه، لا من لسانه فقط.