أما موضوع الدرس فهو (الخسران المبين)، ولكن لما كنا في شهر رمضان فإنني آثرت أن يكون الحديث عن أحوال الناس في شهر رمضان؛ لأنه مناسب أن أحدث الناس في شيءٍ هم فيه.
هذه عملية تشخيص وتصوير لأوضاع الناس، بحيث يعرف كل واحد منا أين موقعه ومركزه؟ فإن كان محسناً فليحمد الله ويثبت، وإن كان مسيئاً فليتدارك رمضان فإنه بقي علينا من رمضان الثلث، فقد ذهب رمضان وبعض الناس لا يزال يهنئ برمضان، فقد ذهبت الأيام الأولى بسرعة، وسينتهي بقية الشهر، فمن فاته شيء من عدم الاهتمام والتدارك، فعليه أن يتدارك نفسه في نهاية الشهر أو مع ما بقي من الشهر، ومن كان قد أحسن فليسأل الله القبول، ويسأل الله الاستمرار والثبات إلى نهاية الشهر.
شهر رمضان -أيها الإخوة- عبادة من أزكى العبادات، وقربة من أعظم القربات، وهو ركن من أركان الإسلام، ومبنىً من مبانيه العظام، دل على مشروعيته الكتاب والسنة والإجماع.
قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:183 - 184]، هذه آيات فرضية الصيام، ابتدأها الله عز وجل بالنداء الحبيب الذي يحبه كل مؤمن وهو: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة:183]، وهذا النداء مشعر بعدة معانٍ، يقول ابن مسعود: [إذا سمعت الله يقول: (يا أيها الذين آمنوا) فأرعها سمعك؛ فإنه إما خير تؤمر به أو شر تنهى عنه].
والنداءات في القرآن الكريم جاءت على أربعة أصناف: النداء الأول: نداء عام لجميع الناس، مثل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} [الحج:1] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئاً} [لقمان:33] فهذه آيات قوة ووعيد؛ لأن الناس فيهم البر والفاجر، والمؤمن والكافر، فجاء خطاب عام.
النداء الثاني: جاء لفئة معينة من البشر وهم أهل الإيمان -جعلنا الله وإياكم منهم- فأعظم نعمة أنك مؤمن، وإذا كُنت مؤمناً فالله عز وجل وليك؛ لأن الله يقول: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة:257]، وهل يضيرك شيء والله وليك؟ وهل تجوع والله وليك؟ وهل تعرى والله وليك؟ هل تترك أولادك جائعين وأنت وليهم؟ هل تدعهم عطاشاً وأنت وليهم؟ أبداً، فكيف إذا كان الله ولي الذين آمنوا؟! وبعد ذلك الله مع المؤمنين ويرعاهم وأعد الجنة لهم.
فإن رزقك الله الإيمان فهي أفضل نعمة يمنها الله عليك، ولهذا قال الله تبارك وتعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} [يونس:58] فلتفرح بنعمة الإيمان، وبعد ذلك يقول: {ولَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ * فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الحجرات:7 - 8] فنعمة الإيمان هي أعظم نعمة يمنها الله عليك أيها الإنسان، فلذا يقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [الحجرات:6] فهو خطاب خاص بأهل الإيمان.
النداء الثالث: نداء خاص بالكفار، وقد جاء مرة واحدة، وهو على سبيل الخبر عما سيكون يوم القيامة، قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ} [التحريم:7] لأن المعاذير يوم القيامة تظهر بشيء عجيب! إذا وقف الناس في عرصات القيامة ورأوا النار تزفر وتمد أعناقها، لها عينان تنظران، ولها لسان تتكلم به وتأخذ شخصاً بعد شخص {إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً * وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُوراً * لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً وَاحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً} [الفرقان:12 - 14] فهنالك تتفتق قرائحهم، وتظهر أشعارهم وبياناتهم في أعذار طويلة؛ لكن الله يقول: {لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ} [التحريم:7].
يأتي المرابي فيقول: البيع مثل الربا، البيع والربا سواء بسواء، يقول الله: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة:275].
يأتي الثاني ويقول: يا رب! الزنا مثل الزواج عملية جنسية، لكن ليس عندي حق الزواج، فيقول الله عز وجل: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور:2] {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى} [الإسراء:32] فكل إنسان يبحث عن عذر، فقال الله: {لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ} [التحريم:7] وقال: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [غافر:52] فالأعذار تأتي كثيرة لكن ينساها الشخص، ومتى تأتي؟ عند الحاجة.
مثلاً: أنت تمشي بسرعة ولا تعلم أن هناك من يرصد سيرك وسرعتك، وإذا بشخص يوقفك ويقول: لماذا تسرع سرعة جنونية؟ ماذا تقول له؟ سوف تكذب سبعين كذبة، فتقول له: عندي رحلة في المطار، وأنت ليس عندك رحلة، وعندي مريض ينتظرني، لكنه سوف يكذبك ويقول: ليس عندك عذر لابد أن تخرج الجزاء هنا، وتكذب من أجل (ثلاثمائة ريال) لا تريد أن تدفعها، فأهل النار يعتذرون ليس من أجل المال، ولا من أجل السجن، لكن من أجل نار تأكل العظام وتفتتها، نار تشوي الوجوه، ليست نار يوم ولا نار سنة ولا نار مائة سنة {لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً} [النبأ:23] {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} [هود:107] عذاب مقيم؛ فراشك ودفاك وطعامك وشرابك وظلالك كله نار، وكل شيء نار -والعياذ بالله-، فتأتي أعذار ليس بعدها أعذار، ويكلم الله أهل النار وهم فيها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [التحريم:7].
فالله عز وجل لا يظلم، فعنده قواعد العدل كاملة، لا يأخذ أحداً بجريرة آخر، يقرر كل شخص على معصيته، هذا كتابك اقرأ كتابك أنت بنفسك، وبعد ذلك شهودك ليس من الجماعة ولا من الأقارب بل من نفسك، فعينك تشهد عليك، ولسانك يشهد عليك، وأذنك تشهد عليك، فإذا رأيت نفسك تشهد على نفسك فتقول لنفسك أيها الإنسان: {لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} [فصلت:21].
النداء الرابع: نداء موجه لفئات خاصة، وهم أهل الكتاب من اليهود والنصارى، قال الله عز وجل: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ} [المائدة:68]، {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} [النساء:171] إلى آخر ما فيه.
فنداء الإيمان الذي يأتيك من رب السماوات والأرض من عالم الخفيات ومن ملك الملوك وجبار السماوات والأرض، شرف كبير أن الله يناديك وأنت لا تستجيب لربك! يناديك: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [الحجرات:6] يقول الصحابي: أرعها سمعك، انتبه كأنك تقول: لبيك يا رب وسعديك، ماذا تريد مني؟ أنا عبدك، أنا خاضع بين يديك، أنت مولاي وأنا عبدك، ماذا تريد يا رب؟ قال العلماء: (يا أيها الذين آمنوا) تشعر بثلاثة معان: الأول: عظمة المنادين ومحبة الله لهم أنه اختصهم بلفظ الإيمان.
الثاني: عظمة الأمر المأمور به بعد هذا اللفظ، فإنه لم يقل لهم: (يا أيها الذين آمنوا) إلا لشيء مهم يطبقونه؛ لأنهم مؤمنون.
الثالث: أن مقتضى إيمانهم يدفعهم، كأن هناك إلهاماً لمشاعرهم، وتحريكاً لأحاسيسهم؛ وأنا أقول لكم: (يا أيها الذين آمنوا) فمقتضى إيمان المؤمن أنه ينفذ أمر الله تبارك وتعالى، يقول الله وهو يستثير فيهم كوامن الإيمان: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة:183] ومعنى (كتب) أي: فرض وأوجب وألزمتم به، والكتابة في الشرع تعني أعلى درجات الإلزام، أي: فرض، وجب، ألزم، هذه أوامر، لكن (كتب) هذا شيء لا بد منه.