الإيحاء الثالث: قضية السهر في رمضان؛ وهذه مشكلة المشاكل، وعقدة العقد عند المسلمين.
فقد شرع الله صيام رمضان، وشرع رسول الله صلى الله عليه وسلم قيام ليله، وبعد القيام ينصرف الناس إلى بيوتهم، وينامون ليستيقظوا، فيتسحروا ويصلوا الفجر، ثم يباشروا أعمالهم بقوة ونشاط، ولكن الذي يحدث الآن أن رمضان تصبح لياليه كلها سهراً، لا ينام الإنسان في رمضان إلى الفجر، ثم يأتي في الصباح وهو متعب، إما أن يأخذ إجازة، وأكثر الناس يأخذ إجازة في رمضان يقول: رمضان شهر النوم، نريد أن نأكل في الليل ونرقد في النهار، فهذا لم يقصر!! النهار نوم والليل أكل هذا هو رمضان، بينما الصحابة والسلف في النهار جهاد، والليل صلاة وقيام، رهبانٌ بالليل فرسانٌ في النهار، ولهذا كانت معارك الإسلام كلها تقوم في رمضان؛ غزوة بدر في رمضان، فتح مكة في رمضان، معارك التتار في رمضان، فكل الغزوات الإسلامية الفاصلة كانت تقوم في رمضان، لماذا؟ لأن المسلمين كانوا أكثر قوة ونشاطاً وإقداماً؛ لأنهم انتصروا على شهوات البطن فهم أقوياء، لكن الآن عندما سهر الناس في الليل تعطلت قواهم وخارت إمكاناتهم في رمضان، فنجد الموظف نائماً على مكتبه، ونجد الطالب نائماً على كرسيه، ونجد المدرس نائماً في المدرسة، ونجد البنت نائمة؛ كلهم نائمون، ماذا هناك؟ يقول أحد مدراء المدارس: دخلت على مدرس فصل في نهار رمضان، وحين دخلت وإذا بالطلاب نيام والمدرس نائم، يقول: فأخذت الكرسي وجلست بجانبهم، أريد أن أنتظر حتى يستيقظ، وينظر أني جالس أراقبه، وأني وجدته وهو نائم، يقول: فقعدت قليلاً فإذا بهم كلهم (يخطون) وبعدها رقدت معهم، رقد المدير والمدرس والطلاب في نهار رمضان، لا إله إلا الله! لماذا؟ لأن نوم النهار لا يحقق حاجة الجسم كنوم الليل، لو نمت في النهار من الفجر إلى المغرب، فإنك تقوم وأنت مريض، لكنك لو نمت في الليل ساعة أو ساعتين تقوم وأنت نشيط، لماذا؟ يقول العلماء: هذه آية من آيات الله؛ فقد قال الله في القرآن الكريم: {يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ} [القصص:72] وقال: {وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً} [الأنعام:96] قال العلماء: إن الناس ينامون في النهار، فلماذا خصص الله السكن في الليل؟ فبعد البحث والتشريح والدراسة والتأمل، وجدوا أن في مخ الإنسان خلايا، وأن هذه الخلايا إذا نام الإنسان في الليل سكنت، وإذا نام الإنسان في النهار بقيت مفتوحة، فيقوم الإنسان من نوم النهار وكأنه لم ينم، تنظر إليه ينام من الصباح ويقوم وهو ضعيف ومتعب، يريد أن ينام طوال اليوم، لكن دعه ينام ساعة أو ساعتين في الليل فإنه يقوم ما شاء الله والحمد لله! ذهب النوم، لماذا؟ لأن هذه الخلايا نامت.
فنوم الليل ضروري -أيها الإخوة- ولا داعي للسهر، خصوصاً السهر المحرم، حين يسهر الناس في ليالي رمضان المبارك على معصية الله؛ يسهرون على الأفلام، ومجالس الغيبة والنميمة وأكل لحوم البشر، أو السهر في الذي هو أشبه بلعب الأطفال، كلعب الورق الذي يعني ابتلي به كثير من الناس، حتى العقلاء منهم وكبار السن يلعبون الورق (البلوت)، وهذا شيء يستغرب من العقلاء، ولا ينبغي لهم أن ينزلوا إلى هذا المستوى، فهذا الورق أصله لعبة للأطفال، أنت لو جئت إلى مجموعة من الأطفال وهم يلعبون الورق لم تنكر عليهم، ولو جئت إلى مجموعة من الأطفال يلعبون المكعبات، تعرفون المكعبات البلاستيكية التي يلعب بها الطفل ويعمل منها بيوتاً؟ فإنك لا تنكر عليه، أو رأيته يلعب بسيارته أو بطائرته أو بدبابته أو ببندقيته، لكن ما ظنك إذا جئت إلى رجل كبير عمره أربعون سنة، ومعه كيس من المكعبات ويبني منها عمارة، تقول: ماذا تعمل؟ يقول: والله أبني لي عمارة من المكعبات، أو يكون معه سيارة صغيرة يلعب بها، تقول له: ماذا بك؟ قال: ألا تنظر الموديل الجديد، ما رأيك في عقلية هذا الرجل؟ أما تحكم عليه بأنه مجنون وعقليته عقلية الأطفال؟! نعم.
بالله هل هذا عمل العقلاء أيها الإخوة؟! إنه عمل أطفال، وبعدها يقضي الواحد الساعة والساعتين والثلاث والأربع والخمس والست إلى الفجر وهم يلعبون، لا يكلون ولا يملون، وهم مع ذلك يقامرون بأوقاتهم وحياتهم، وهذا يقوم وذاك يقعد، وبعد ذلك زوجته في البيت تنتظره ولا يأتي، ومن حين يدخل يقول لها: اعلمي أني سوف أتأخر الليلة، وهذه القاصمة على المرأة، تقول: لماذا تتأخر الليلة أين ستذهب؟ وماذا بقي عندها إلا أنت؟ تريد منك أن تؤانسها وتسامرها، وأنت تقول: لا.
(البلوت) الليلة عند فلان وفلان وفلان، وإذا جاءت ليلته قال: اعلمي أن اللعب الليلة عندي، يا ويل تلك المرأة من الليلة! فإنها تحضر الشاهي و (النسكافية) والحليب والقهوة، كأنها (مكينة) طالعة نازلة طوال الليلة، والعصائر والفواكه، إلى الفجر وهم يلعبون الورق، وبعدها إذا قالت لهم: اتقوا الله يا جماعة! هذا لا يرضي الله، قالوا لها: ماذا تريدين أن نعمل؟ هل نذهب لنأكل لحوم الناس؟ ومن قال لكم: أن تأكلوا لحوم الناس، إذا لم تأكلوا لحوم الناس رجعتم إلى الورق! لا.
إن المسلم ليس في حياته فراغ -أيها الإخوة- المؤمن مشغول، وكل دقيقة من دقائقه يجب أن يستغلها، في أي مصلحة له في الدنيا أو في الآخرة، أما إذا شعر أن عنده فراغاً فليعلم أنه فارغ من الإيمان، ما من ساعة تمر من ابن آدم إلا كانت عليه حسرة وندامة يوم القيامة، إذا لم يذكر الله فيها: (ما جلس قوم في مجلس لم يذكروا الله تعالى فيه إلا تفرقوا عن مثل جيفة حمار).
نحن نخاطب العقلاء والمنصفين ونقول لهم: اتقوا الله، إن مجالس (البلوت) هذه مجالس قمار بالوقت، والله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة:90 - 91] نعم.
يجب على المؤمن أن يقول: انتهينا؛ لأنه يلعب (البلوت) ويوجِد في قلبه البغضاء والعداوة بينه وبين من يلعب أمامه، وبينه وبين الذي يغلبه، وبعدها يصده عن ذكر الله، لا يذكر الله طوال الوقت إلا بالأيمان الفاجرة فتمر عليهم الساعات والدقائق ولا يذكرون الله، والعياذ بالله.
فنقول أيها الإخوة: ليس هناك مانع من السهر المحدود المباح إذا كان على ما يرضي الله؛ إما أن تسهر مع زوجتك؛ وهذا من أعظم الأشياء، أو تسهر مع قريبك تزوره، أو مع رحمك تزورها، أو مع جارك تصله، أو مع مصالحك الدنيوية، كأن يكون عندك مكتب أو مؤسسة أو دكان، فليس هناك مانع، لكن إلى مستوى معين من الليل إلى منتصف الليل وهذا طويل، ثم تعود بعد منتصف الليل إلى بيتك وتنام، وتربي أولادك على النوم إلى السحور، ثم تقوم في السحور وتتسحر وتذهب إلى المسجد؛ هذا هو البرنامج الإيماني بالنسبة للسهر، أما من يقضي ليله في السهر الفارغ، ثم ينام سائر اليوم، هذا لم يعرف رمضان حقيقةً.