ثم جاء التبرير والتوضيح لهدف الصيام، والحكمة من فرضيته فقال: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183] ليس الغرض تعذيبكم أو تجويعكم، فليس لله حاجة في ترككم طعامكم وشرابكم، ولكن الغرض تربيتكم ورفع درجاتكم، والهدف تعويدكم على الانتصار على النفس وشهواتها وملذاتها، تعويدكم على الانتصار على كل المباحات، فالغرض هو التقوى: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183]، وإذا صرتم متقين حصلت لكم الخيرات من كل جانب، إذا صرتم متقين فإن الله وليكم في الدنيا والآخرة، يقول تعالى: {وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} [الجاثية:19].
إذا صرتم متقين فيقول الله: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس:62] {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:63] {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ} [المرسلات:41] {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ} [الدخان:51] {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ} [الطور:17] {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر:54 - 55].
{لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183] حتى تتقوا، فإذا وصلتم إلى درجة التقوى وهي: الشعور بالمراقبة لله الذي لا إله إلا هو، إذ أن الصوم هو العبادة الوحيدة التي لا يطلع عليها إلا الله؛ بإمكان كل واحدٍ أن يتظاهر أنه صائم، وبإمكانه بالخفية أن يفطر، من يعرفك؟! من يلازمك أربعاً وعشرين ساعة؟! من يراقب تصرفاتك؟! ولهذا جاء في الحديث أن الله عز وجل يقول: (كل عمل ابن آدم له الحسنة بعشر أمثالها إلا الصوم؛ فإنه لي وأنا أجزي به)، لم كان الصوم لله خالصاً من بين الأعمال؟ لأنه لا يمكن أن يعرف حقيقته أحد إلا الله.
ذكرت قصة حصلت لي في الجنوب في أبها: فقد كنت في معهد علمي ألقي محاضرة، وبعد المحاضرة وانفضاض الناس أمسك بي شاب تشرق أنوار الإيمان من وجهه، عليه بهاء الإيمان والدين، وقال لي: يا شيخ! عندي سؤال على انفراد، قلت: تفضل، قال: أنا شاب تائه تبت ورجعت إلى الله منذ تسعة أشهر، وسبق وأن مضى عليَّ سبعة رمضانات لم أصم لله فيها يوماً واحداً، ولم يسجل لي في صحيفتي حسنة واحدة من أول عمري؛ لا صلاة، ولا صيام، ولا أي عمل، قلت له: أين تعيش؟ قال: في هذا البلد، قلت: وأبوك وأمك لا يدرون أنك لا تصوم ولا تصلي؟ قال: أقول لهم: إني أصوم ولكني آكل في الخفية، وأقول لهم: إني أصلي ولكني أخرج من البيت ثم أعود وأقول لهم: قد صليت، قلت: وماذا بعد هذا؟ قال: حتى أراد الله أن يهديني، قلت: وكيف كانت الهداية؟ قال: خرجت من بيتنا في القرية لأذهب إلى منطقة محائل من أجل حضور مباراة بين ناديين كبيرين في المنطقة، يقول: فلما انطلقت في الخط تسرب الهواء من إطار السيارة، والحمد لله أنه حين تسرب الهواء من الإطار تسرب معه الشر من تلك اللحظة، وبدأت الحياة الإيمانية بتسرب الهواء من إطار السيارة.
يقول: السيارة فيها إطار احتياطي، لكن سوف تفوتني المباراة إن قمت بتركيبه، يقول: فقمت بإيقافها على حافة الطريق، وأوقفت أول سيارة، وركبت حتى أحضر المباراة من أولها، وما إن ركبت في السيارة إلا وصاحبها يضع يده على الشريط، ثم قام بتشغيل شريط إيماني لم أسمع في حياتي مثله، يقول: إنه لم يحضر صلاة جمعة ولا خطبة ولا ندوة ولا محاضرة، يقول: أنا معزول عن الله أعيش مع الشيطان أربعاً وعشرين ساعة، يقول: فسمعت هذا الكلام فدخل أذني واستقر في قلبي، وبدأت أراجع نفسي وأضرب حساباً مع نفسي، وأقول: أين أنا من هذا الكلام؟ وماذا لو مت الآن ودخلت النار؟ كيف أصحح الغلطة؟! لماذا لا أتوب؟! يقول: وصلت إلى محائل وقررت التوبة.
والتوبة والهداية -أيها الإخوة- ليست أمراً معجزاً للإنسان، هي قضية سهلة ما عليك إلا أن تقلع عن المعاصي، وتعلن التوبة والرجوع إلى الله، وإما أن تستمر على ما أنت عليه من المعاصي، فتعيش في ظلمات الكفر -والعياذ بالله! - والنفاق والمعاصي.
يقول: وعندما وصلت إلى مدينة محائل نزلت من السيارة ولم أذهب إلى المباراة، فركبت سيارة غيرها ورجعت إلى سيارتي، ومن ذلك اليوم رجعت إلى الله.
يقول: وقد مرت عليَّ سبعة رمضانات لم أصمها فماذا أصنع؟ قلت له: لو قلنا لك: بأن تصوم سبعة رمضانات فهل تصوم؟ قال: والله أصومها حتى لو كان سبعين رمضان.
عندما دخل الإيمان انفتح القلب، وانشرح الصدر وتلألأ، وبدأت الهداية والخشوع والخضوع لله عزوجل.
قلت له: ليس عليك صوم؛ لأنك كنت في حكم الكافر، ما دمت لا تصلي ولا تصوم، فإن الله عز وجل يعفو عنك إن شاء الله، والتوبة تجب ما قبلها، والإسلام يهدم ما قبله، ولكن العبرة والمعول على المستقبل، فاستمر واثبت حتى تلقى الله، لا تتذبذب ولا تتردد ولا ترجع، فإن الذي يرجع وينتكس عن طريق الحق، هذا خائب لا خير فيه ولا يصلح للجنة؛ وهذه مشكلة يشكو منها بعض الشباب، يقول: أنا التزمت قليلاً ثم تظهر علامات الانتكاسة فيه يريد أن يرجع، تعرفون ما هو السبب؟ السبب: أنه لما سار في طريق الإيمان لم يخلِ قلبه وجوراحه من الآفات والشوائب والأخلاط، ثم جعل الخير على هذه الشوائب فما انتفع به، فإذا كان عندك كأس مملوء بالتراب والقذر، وجاءك شخص وأعطاك لبناً وقال: هات كوبك أصب لك فيه لبناً، هل تصب اللبن والحليب في هذا الكوب؟!! لا.
وإذا صببته هل تستفيد من الكوب مع وجود هذه القذارة فيه؟! بل يفسد عليك هذا اللبن.
إن العقل يفرض عليك أن تغسل هذا الإناء، وتعقمه وتطهره، ثم تضع فيه اللبن لتستفيد منه، بعض الناس الآن يريد أن يجمع بين الخير والشر، يريد أن يصير طالباً مهتدياً ومنتظماً، ولكنه يحب الأغاني والنظر المحرم، والأفلام والربا والزنا، ويقول: أنا أحسن من غيري، أنا أصلي وأصوم لكن هل أكون ملتزماً دائماً؟! ففرضية الصيام سببها وحكمتها وعلتها: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183] ثم يقول عز وجل بعد هذا: {أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ} [البقرة:184] يسهلها رب العالمين، يقول: لماذا الخوف؟ ولماذا لا تصومون، هل هو كثير؟ {أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ} [البقرة:184] العام فيه (360) يوماً، فرضنا عليكم فيها صيام (30) يوماً فقط، و (330) يوماً تأكلون فيها، ثم إن نسبة الصيام قليلة وسهلة، لو فرض الله علينا الصيام طوال العام أفي إمكاننا أن نرفض؟! لا نرفض والله، بل نصوم، لو فرض الله رمضان طوال العام لكنا صائمين، وما كنا مفطرين، لماذا؟ لأن الذي يفطر له النار، ولكن من رحمة الله أن جعل لك صيام شهر واحد، ثم جعل الشهر يعدل عشرة أشهر، وجعل ستة أيام في شهر شوال تعدل شهرين، بمعنى: أنك إذا صمت رمضان وأتبعته ستاً من شوال كأنك صمت العام كله، كما جاء في صحيح مسلم: (من صام رمضان وأتبعه ستاً من شوال كان كمن صام الدهر كله).
{أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ} [البقرة:184] ثم جاء الفرج من الله، وقال: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184] إذا ابتليتم بمرضٍ خارجٍ عن إرادتكم، أو ابتليتم بسفرٍ تحتاجونه لتحقيق مصالحكم؛ لأن مصالح البشر قائمة على التبادل والمعاوضات، والسفر والذهاب والمجيء، ويحتاج الإنسان للسفر؛ والسفر قطعة من العذاب، ولذا قد يحتاج إلى الإفطار، قال تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184] هذه حكمة الصوم.