أما سبيل الجنة، جنة عدن، فإليك بيانه من كلام الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [الصف:10 - 12] هذا هو سبيل الجنة وهذا هو طريقها، واعلم -يا أخي- أن السلف رحمهم الله لما عرفوا هذا الطريق وعلموه سلكوه وساروا فيه، وقدموا في سبيله كل ثمن، استرخصوا المهج والأرواح، واسترخصوا البعد والخروج من الديار، خرجوا من ديارهم، فارقوا زوجاتهم، فارقوا أنفسهم، قُطِّعت رقابهم، بقرت بطونهم، قطعت أنوفهم وآذانهم، وشوهت خلقتهم في سبيل الله، لماذا؟ لأنهم عرفوا الطريق، يقول الله: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} [الأحزاب:23].
وهذا مثل من أمثلتهم: رجل منهم اسمه: عمير بن الحمام رضي الله عنه، وقف في غزوة بدر والرسول صلى الله عليه وسلم يقول للصحابة: (قوموا إلى جنة عدن، وجنة عرضها السماوات والأرض، قال: يا رسول الله! عرضها السماوات والأرض؟ قال: نعم.
قال: بخ بخ.
قال: ما حملك على هذا؟ قال: أرجو أن أكون من أهلها، قال: ما بينك وبينها إلا أن تموت، فنظر إلى يديه وفيها تمرات، قال: والله إنها لحياة طويلة حتى آكل هذه التمرات، ثم رماها وقام ودخل المعركة وقاتل وأبلى بلاءً عظيماً) مات في سبيل الله، هذا هو الصادق! أما الذي يريد الجنة وهو كاذب، يريد الجنة وهو مقيم على الذنوب، يريد الجنة وهو مضيع لصلاة الفجر، يريد الجنة وهو محافظ على شرب الدخان، تقول له: اترك التدخين، يقول: يا شيخ! لم أستطع! يريد الجنة وهو ينظر إلى الحرام، يريد الجنة وهو يستمع إلى الحرام، يريد الجنة وهو يقع في الزنا، يريد الجنة وهو يتعامل بالربا، ويقول: الله غفور رحيم ونريد الجنة، أبوك آدم أُخرج من الجنة بذنب.
يقول ابن القيم: يا قليل العزم! أبوك أُخرج من الجنة بذنب وأنت عند الباب وخارج الجنة وعندك آلاف الذنوب كيف تدخلها، وما هو ذنب آدم؟ لا زنى ولا سرق ولا لاط ولا رابى، وإنما لا تأكل من الشجرة فأكل من الشجرة، وما أكل يريد أن يعصي الله، بل يريد أن يبقى في الجنة، يريد أن يبقى فيها دائماً، ومن الذي كاد له؟ إنه الشيطان، هو الذي قال له: {مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنْ الْخَالِدِينَ} [الأعراف:20]، إذا أكلتها أصبحت من الملائكة، قال الله: {فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ} [الأعراف:22].
فيا إخواني! هذه الجنة تحتاج إلى عمل وتحتاج إلى صدق مع الله تبارك وتعالى، ثم بعد ذلك ليعلم كل منا أنه لن يدخل أحد الجنة بعمله؛ لأن عملك مهما عملت لا يساوي شيئاً من نعم الله عليك في الدنيا فضلاً عن الآخرة: (قالوا: يا رسول الله! ولا أنت؟ قال: ولا أنا) ما رأيكم، من منا يبلغ درجة الرسول صلى الله عليه وسلم في عبادته؟ حتى الرسول لا يدخل الجنة بعمله، قال: (حتى أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته) قدِّر يا أخي! نعمة الله عليك، ثم اعرف ما عملت، لو عبدت الله من يوم أن تخلق إلى أن تموت فهل تعدل هذه العبادة نعمة البصر؟ هل تعدل نعمة العافية؟ لا.
لا تعدل أي نعمة من نعم الله عليك، ثم إذا عبدت الله وصليت؛ صليت بجسد من الذي خلقه؟ الله، العافية التي في هذا الجسد من أعطاك إياها؟ الله.
إذا تصدقت بالمال، فمن أين هذا المال؟ من الله.
إذا جاهدت ووضعت مالاً أو نفساً فمن من؟ من الله.
إذاً: كل شيء من الله، وهو صاحب الفضل الأول والأخير: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل:53].
فعلينا -أيها الإخوة- أن نعبد الله وأن نتوب إليه، وأن نستقيم على منهج الله، وأن نجاهد أنفسنا على طاعة الله، وأن نجاهدها عن معصية الله، وأن نسأل الله الثبات حتى نلقاه، وبعدها يعطينا الله فضلاً منه وكرماً ورحمة يعطينا الجنة وإلا فليست الجنة نظير أعمالنا، فأعمالنا قليلة، وأفضال الله علينا كثيرة.
نسأل الله الذي لا إله إلا هو أن ينصر دينه وأن يعلي كلمته، وأن يبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل الطاعة، ويذل فيه أهل المعصية، ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر، إنه سميع الدعاء، كما نسأله تبارك وتعالى أن يوفقنا جميعاً لما يحبه ويرضاه، وأن يكتبنا وإياكم في هذه الساعة المباركة وفي هذا المكان المبارك من أهل الجنة، وأن يعتق رقابنا وإياكم ورقاب آبائنا وأمهاتنا وإخواننا وأخواتنا وجميع المسلمين من النار؛ إنه على كل شيء قدير وبالإجابة جدير.