الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: أيها الإخوة في الله! هذا الدرس ضمن سلسلة تأملات قرآنية في سورة الأنعام، يلقى بعد مغرب يوم السبت الموافق للثامن والعشرين من شهر ذي الحجة سنة (1415هـ) على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التسليم، وذلك بمدينة جدة بمسجد كيلو12، عنوان هذا الدرس: لهم دار السلام عند ربهم.
ودار السلام هي الجنة -جعلنا الله وإياكم من روادها ومن أهلها- وسماها الله عز وجل دار السلام؛ لأنها سلمت من كل آفة ومن كل خلل ونقص، والسلام بمفهومه الشامل: السلامة من الموت، والسلامة من المرض، والسلامة من الفقر والهرم، والسلامة من الهم، والسلامة من التعب والنصب، والسلامة من كل آفة وعلة، وتوفر كل نعمة: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق:35] إنها الجنة! نسأل الله الذي لا إله إلا هو أن يجعلنا وإياكم من أهلها.
وقد كان الدرس الماضي عن النار -أعاذنا وإياكم منها- وهو بعنوان: (وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ) وذكرنا ما ذكره الله في كتابه، وما ذكره رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته من بيان وتوضيح للنار، وما أعد الله فيها من النكال والعذاب الذي لا يتصوره عقل ولا يخطر على قلب بشر، ولما كان القرآن مثاني -هذا أسلوب القرآن- إذا جاء بذكر النار عقب بذكر الجنة؛ لأن النفوس لا تمشي إلا بالسوْق وأيضاً بالحدو، السوْق: سوط في ظهورها، والحدو: صوت يهيجها، مثل الإبل، فهناك إبل إذا قام الحادي يعطي لها أصواتاً؛ ترنمت ونشطت وهملجت وقطعت الأرض، وهناك إبل مريضة لا تمشي إلا بالسوط وإلا بركت.
وإن من الناس من يهيجه ذكر الجنة، فإذا سمع بما فيها نشط، ومنهم من يزعجه ذكر النار فإذا سمع بما فيها نشط في العبادة، ومن الناس -وهم غالب البشر- من يهيجه ذكر الجنة وأيضاً يزعجه ذكر النار على السواء، وهذا ملاحظ إذا قرأت القرآن، فإنك لا تجد الله تبارك وتعالى يخوف عباده من النار إلا ويبشرهم بالجنة، فجاء القرآن الكريم بذكر الجنة ثم بذكر النار، أو ذكر النار بداية، وفي الغالب أن الله عز وجل يذكر النار دائماً باستمرار قبل الجنة، ويقول العلماء: إن في هذا سراً، وهو أن القلوب الغافلة لا يزعجها إلا الألم، فإذا انتبهت وصار عندها خوف جاء الأمل بذكر الجنة وما أعد الله لأهلها.
وهذه الجنة أيها الأحبة جاء ذكرها في سورة الأنعام، يقول الله عز وجل للرسول صلى الله عليه وسلم: {وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً} [الأنعام:126] أي: هذا الدين، هذا القرآن، هذا الإسلام، هذا صراط الله، هذا الكتاب الكريم، هذه السنّة المطهرة، هذا الرسول الكريم، صراط وطريق واضح: {وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ} [الأنعام:126] فصّل الله الآيات، وبين الله الأمر وأقام الحجة، لكن لمن؟ {لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ} [الأنعام:126] لقوم عندهم عقول وذاكرة وأفهام وألباب، أما الغافلون المغطى عليهم، أما المخمورون المخدوعون، فإنه لا يزعجهم سوى النار، فإذا وقعوا في النار قالوا: يا ليتنا نرد، ولكن لم يعد هناك مرد، انتهى الأمر، فليس هناك إلا النار.
أما الذين يذَّكرون وتزعجهم قوارع القرآن، فقد قال الله عز وجل وهو يطمئنهم: {وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ * لَهُمْ دَارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [الأنعام:126 - 127] ليس فقط دار السلام، وإنما عند ربهم، وتصور عندما تكون عند ربك، ربك الذي رحمك، ربك الذي خلقك ورزقك، ربك الذي هداك وسددك، ثم لما مِت وأنت على دينه أحبك وأكرمك وقربك وأدخلك جنته، ولهذا تقول امرأة فرعون آسية بنت مزاحم وهي تدعو الله: {رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ} [التحريم:11] لا تريد بيتاً في الجنة فقط بل تقول: عندك يا رب! يقولون: سألت الجار قبل الدار: {رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ} [التحريم:11] لأن بيتاً ليس عند الله لا يصلح، ونعيماً وسلاماً ليس عند الله لا يصلح، والله يقول: {لَهُمْ دَارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ} [الأنعام:127] وهذا شرف لهم فوليهم الله، ومن كان الله وليه فلا يخاف ظلماً ولا هضماً، بسبب ماذا؟ قال الله: {وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:127].
{لَهُمْ دَارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ} [الأنعام:127] بسبب ماذا؟ هل لأن لهم جنسية معينة؟ أم لأن لهم أرصدة في البنوك كثيرة؟ أم لأن عندهم شهادات عالية؟ أم لأن لهم مقاماً رفيعاً في المجتمع، أم لأن لهم رتباً أو مناصب أو جاهاً أو سلطاناً؟ لا.
فهذا في الدنيا فقط، لكن في الجنة: {بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:127] أي: بسبب ما كانوا يعملون من عمل صالح بوأهم الله هذه المنزلة وأحلهم هذه الدرجة، فلهم دار السلام التي سلمت من كل آفة، وعند ربهم، والله وليهم.