من أسباب سوء الخاتمة العدول والانحراف عن الاستقامة بعد أن يسير الإنسان عليها؛ لأن الاستقامة والتمسك بها، ثم التغير عنها والانحراف عما كان عليه الإنسان هو خلق إبليس؛ لأن إبليس كان من الملائكة، وفي بعض الآثار أنه كان طاووس الملائكة، وما من بقعة في الأرض ولا في السماء إلا وقد سجد لله فيها سجدة، ولكنه نكص عن الطاعة ووقع في المعصية بمخالفته أمر الرب عز وجل حينما قيل له: اسجد لآدم مع الملائكة {قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف:12] وهذا الخلق سار على نهجه الأبالسة من بعده، وأتباعه من المخذولين -والعياذ بالله- إلى يوم القيامة؛ لأنهم يسيرون في طريق الهداية ويستنشقون عبير الإيمان ويتذوقون طعم الهداية ثم ينتكسون، فإذا انتكسوا لا يرجعون؛ لأن الله يقول: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ} [المنافقون:3].
فالانتكاسة خطيرة جداً، ولذا -يا مسلم- تمسك، إذا أراك الله السبيل وذقت طعم الإيمان فتمسك به إلى آخر لحظة من حياتك، ولا تنتكس فربما تكون انتكاستك هذه لا رجعة بعدها -والعياذ بالله-.
بلعام بن باعوراء من قوم موسى، آتاه الله آياته، وأعطاه دلالاته، ولكنه انتكس وأخلد إلى الأرض والشهوات، وقال الله فيه: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا} [الأعراف:175] والانسلاخ من الشيء هو تركه وعدم الرغبة في العودة إليه إذا خلعت ثوبك الآن ماذا تقول؟ تقول: خلعت ثوبي أو وضعت ثوبي، لكن هل تقول: سلخته؟ لا.
وإذا سلخت جلد الشاة، هل تقول: وضعت أو خلعت جلدها؟ لا.
تقول: سلخت جلدها، يعني: أبعدت جلدها الذي لا يمكن أن يعود إليها.
فـ بلعام ترك الآيات القرآنية ورفضها مع نية عدم العودة إليها أبداً.
لا يريدها، انسلخ منها، وكأن هذه الآيات والتحصينات كانت درعاً واقياً له، فلما تركها وانسلخ منها قال الله: {فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ} [الأعراف:175] تسلط عليه الشيطان بعد أن تخلى عن الآيات {فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ} [الأعراف:175 - 176].
وكذلك قصة برصيص العابد، وهذه القصة ذكرها أهل العلم في كتب التفسير عند قول الله عز وجل: {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ} [الحشر:16 - 17].
ذكرها ابن كثير وابن جرير وصاحب فتح القدير وصاحب الدر المنثور، وكثير من المفسرين ذكروا قصصاً كثيرة، بعضهم أوردها على التفصيل، وبعضهم أوردها على الإجمال، وبعضهم نسبها إلى الإسرائيليات، ولكن الصحيح من هذه القصص: أن رجلاً يقال له برصيص، وكان رجلاً عابداً منقطعاً للعبادة، منعزلاً عن الناس، يعبد الله في صومعته ولا يخالط الناس في شيء، وكان في قريته، وهذه القرية حصل أن اعتدى عليها قوم، فاستنفر رجالها لرد العدوان، وكان منهم رجلان لهما أخت، وهذه الأخت كانت في غاية الجمال، فوقعوا في حرج بين ترك البنت بدون قيم، أو بين الجلوس معها وترك الجهاد، فأتاهما الشيطان وقال لهما: الجهاد أفرض عليكم من أختكم.
انظروا كيف يزين الباطل حتى يقدمه في صورة الحق، وقال لهما: هذه أختكم ضعوها عند برصيص، هذا رجل عابد ومؤتمن على عرضكم ولا يمكن أن يفعل شيئاً، فذهبا إليه وقالا له: يا شيخ! هذه أختنا نضعها عندك أمانة، ونحن سوف نذهب إلى الجهاد، فرفض أول الأمر، قال: لا.
أنا ما تركت الدنيا وانعزلت في صومعتي إلا خشية فتنة النساء، اذهبوا عني وطردهم.
فلما خرجوا جاءه الشيطان وقال له: تزعم أنك عابد وأنك رجل صالح، كيف ترد هذه المرأة وتعطل إخوانها عن الجهاد! هذا عمل مبارك، اقبلها واتركها عندك، وأنت رجل مؤتمن، فما زال يمنيه حتى رغب له الأمر، وجاء الشيطان إلى نفوسهما وقال: عودا إليه لعله أن يطيعكم، فرجعا إليه فوافق بشرط: أن يضعوها في غرفة، وأن يقفلوا عليها الباب، وأن يتركوا بينه وبينها فتحة، يعطيها طعامها في الصباح وفي المساء، ذلك من بالغ احتياطاته حتى لا يقع في الفتنة، فقالا له: نحن آمنين لك يا شيخ! ما دامت كل هذه الاحتياطات التي تضعها -أجل هذه من بالغ الأمانة- قال: أجل حتى يطمئن قلبي وتطمئن قلوبكم، فوضعها في غرفة وعندها حمام.
وأجروا لها ماءها ووضعوا بينها وبينه فتحة، وكان يأتيها في الصباح بالطعام وفي المساء بالطعام، وذهبا في الجهاد، وبقيت على هذا الحال فترة من الزمن.
ثم جاءه الشيطان في صورة الناصح وقال له: يا شيخ! أنت رجل أمين، وهذه المرأة مسكينة مؤتمن عليها أنت، كيف تتركها ولا تدري هل هي حية أو ميتة، أو مريضة أو متعافية، أو مسرورة، أنت رجل أمين، لا شك، افتح الباب عليها وادخل انظر حالها، وإذا فتحت الباب انتهت المسألة، فالخوف في قلبك، والله عز وجل يراقبك، ولا يزال به حتى أغراه بأن جاء وكسر الباب ودخل عليها، ولما دخل عليها كانت في وضع لم تكن تشعر بأن أحداً سيدخل عليها، فكانت قد وضعت ثيابها كاملة، فلما أصبحت هي وإياه في غرفة واحدة، تحقق قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما) وماذا تتصورون أن يأمر الشيطان إذا كان هو الثالث؟ هل يأمر بالعفة؟ والحصانة والدين؟ لا.
ولهذا حرم الشرع على المسلمين الخلوة بالأجنبيات:
لا تخلو بامرأة لديك بريبة لو كنت في النساك مثل بنان
أي: مثل ثابت البناني.
إن الرجال الناظرين إلى النسا مثل الكلاب تطوف باللحمان
إن لم تصن تلك اللحوم أسودها أكلت بلا عوض ولا أثمان
يقول ثابت البناني، وهو من أعبد خلق الله، صلى أربعين سنة الفجر بوضوء العشاء، لا يعرف أبداً النوم في الليل، ليس له فراش، كان عابداً لله، يقول: والله لو أمنتوني على ملء الأرض ذهباً لوجدتموني أميناً، ووالله ما آمن نفسي على أمة سوداء رأسها كأنه زبيبة.
لأن الفتنة على الرجال قوية، قال صلى الله عليه وسلم: (ما تركت على أمتي فتنة أشد على الرجال من النساء) ولهذا احذر يا شاب! احذر يا مؤمن! لأن الخطر عند أول نظرة، والمصيبة عند أول مكالمة، وأول قبلة، لكن ما دمت معتصماً بحبل الله عز وجل؛ تخاف الله وتراقبه لا تنظر لا تتكلم لا تقرأ لا تحاول أن تتصل بأي امرأة محرمة، أنت في عصمة الله عز وجل، فإذا سقطت والتفت لفتة بسيطة على طريق الشيطان؛ ساقك الشيطان إلى هاوية والعياذ بالله.
فهذا الرجل ما زال الشيطان يغريه ويوسوس له حتى أطاعه فدخل بها، فلما رآها عارية وهو خال بها لم يملك نفسه، فزنا بها والعياذ بالله! فلما قضى وطره، استيقظ ضميره، وجاء العتاب الداخلي يلومه، فأتاه الشيطان يقول له: كيف تعمل؟ ما هو موقفك وقد فعلت هذه الفعلة العظيمة؟ أين وجهك؟ أين سمعتك؟ فما زال به حتى كاد أن يقتل نفسه، ثم وضع الشيطان له الحل، وهو يريد أن يضعه في مشكلة أعظم من الزنا المسألة فضيحة، ولو جاء أهلها واطلعوا حصلت فضيحة، كيف تعمل؟ ولكن الحل أن تقتلها، وإذا قتلتها وجاء أهلها فأخبرهم أنها مرضت وتوفيت، وسوف يصدقونك، فما وجد إلا غير هذا الحل، فدخل عليها فضربها بالفأس في رأسها، ثم حفر لها في الغرفة، ودفنها مكانها، وجلس.
وبعد الزنا وقتل النفس فقدَ طعم الإيمان، لم يعد يصلي ولا يعبد الله كما كان، لماذا؟ لأن المعاصي حجاب بين العبد وبين الله، لم يعد يتلذذ بالطاعة ويده ملوثة بالجريمة، وهو مستغرق ومتلطخ بحمأة الرذيلة والعياذ بالله.
ومكث ما شاء الله أن يمكث وجاء إخوانها من الغزو، فلما دخلا عليه سألاه: أين أختنا؟ قال لهما: منذ أن ذهبتما مرضت، وبقيت مريضة مدة من الزمن وهو الأمر الذي قضى أن أكسر الباب وأدخل لأشرف على تمريضها، ومكثت مدة ثم توفيت ودفنتها.
فقالا له: جزاك الله خيراً، ونحن واثقون منك، والحمد لله على حكم الله وودعوه وخرجوا.
وفي الليل وهما نائمان جاء الشيطان إليهما في المنام، فقال للأول: أختك لم تمت؛ قتلها العابد بعد أن زنى بها، وجاء للثاني وأخبره بنفس الرؤية، وفي بعض الروايات: أنهم أربعة إخوة، وفي بعضها: أنهم ثلاثة، فلما جاء في الصباح وإذا بعضهم يقص الرؤية على الآخر، قال: أنا رأيت، وقال ذاك: أنا رأيت، وقال الآخر: وأنا رأيت، وتواطأت الرؤى، فقالوا: قد تكون الرؤيا صادقة، أجل! نذهب ونسأله على الأقل، فذهبا إلى العابد فسألاه، قالوا: يا شيخ! نريد أن نرى قبر أختنا، أين قبرها؟ فجاءه الشيطان قبل أن يأتوا، وقال: لقد علموا، وأنت لا تحاول أن تكتم الحقيقة، أخبرهم والله غفور رحيم، وربما يسامحونك، فلما سألوه، قالوا: أين أختنا، أين قبرها؟ نريد أن نراه! قال: أنا أعلمكم بالحقيقة، فأخبرهم بالأمر كاملاً، فأخذوه وحملوه ووضعوه في جذع نخلة، وبعد أن صلبوه، وجاءوا ليقتلوه! فقال له الشيطان حينما أرادوا أن يقتلوه، قال له: أنا الذي ورطتك في أخذ البنت، والزنا بها، وقتلها، وأستطيع أن أنقذك ولكن بشرط واحد.
قال: وما هو؟ قال: أن تسجد لي سجدة، انظروا! ما يأس منه الشيطان، جعله يزني، ويقتل، وأيضاً لا يريد أن تبقى كلمة التوحيد؛ يريده أن يشرك ويكفر بالله، قال الله تعالى: {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبّ