إن أكل الحرام يطمس البصيرة، لماذا؟ لأن (كل لحم نبت من سحت فالنار أولى به) والحديث في مسلم: (الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب! يا رب!) كل هذه وسائل استجابة الدعوة، يطيل السفر والمسافر له دعوة، بعد ذلك أشعث والأشعث الذي عليه علامات الضعف والذل وشعره أشعث ليس مغسولاً، أغبر ليس عنده ماء يغسل من آثار السفر، ثم يمد يديه إلى السماء والله يستحي أن يرد يد السائل صفراً، ويقول: يا رب! ويكرر: يا رب! بأعظم صفة لله وهي الربوبية يا رب! ولكن (ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام -قال الله-: فأنى يستجاب له) كيف نستجيب له وهذا كله مغذى بالحرام وملغم بالحرام؟ والعياذ بالله.
وانتبه أن تعمل في البنوك، أو أن تضع أموالك فيها؛ لأنك تأكل حراماً، وإذا كنت تملك دكاكين لا تؤجرها لصاحب الاسطوانات أو أشرطة الفيديو أو أشرطة المسجلات يعني: تسجيلات غنائية، ولا تؤجرها لحلاق يحلق لحى المسلمين، ما من لحية تحلق إلا وعليك إثمها إلى يوم القيامة، بعض الناس عنده عمارة ولحيته وافية، لكن لحى المسلمين تحلق في عمارته، لا تبع الدخان في دكانك حتى ولو كنت لا تدخن، لو كنت تدخن فعليك ذنبك، لكن إذا لم تدخن والدخان يباع في دكانك، ما من سيجارة تباع في دكانك إلا وعليك إثمها إلى يوم القيامة، لماذا؟ لأن من دل على ضلال فإن عليه وزره ووزر من عمله إلى يوم القيامة، ومن دل على هدى كان له أجره وأجر من عمل به إلى يوم القيامة دون أن ينقص من أجورهم ودون أن ينقص من أوزارهم، فلا بد أن يكون دخلك حلال.
إذا كنت موظفاً في الدولة أو في شركة يجب أن يكون دخلك حلالاً، كيف يكون دخلك حلالاً؟ أولاً: بالمحافظة على الدوام، فإذا كان الدوام السابعة والنصف فتأتي من بداية الدوام لا تقعد إلى الساعة التاسعة وتأتي آخر الشهر تأخذ الراتب كاملاً وأنت كل يوم تنقص ساعتين من الدوام، من أخذ الأجر حاسبه الله بالعمل، ولا تقل: أنا موظف، وما عندي شغل، أنت أجير عند الدولة، عندك شغل اشتغل، ما عندك شغل اجلس على مكتبك واستعد للعمل، أما أن يتراكم المراجعون على (ماستك) وعلى بابك إلى الساعة التاسعة أو الساعة العاشرة ثم تأتي متأخراً ثم تقوم تفطر ثم تقرأ الجرائد ثم تقضي نصف الوقت في المكالمات، ثم إذا جاءت الصلاة خرجت وبعد الصلاة تقول: انتهى الدوام ارجعوا غداً، هذا لعب وخيانة لولي الأمر، وفي نفس الوقت خيانة للمسلمين، وفي نفس الوقت خيانة لنفسك لأنك أكلت نفسك الحرام وأكلت أولادك الحرام، اذهب للعمل الساعة السابعة والنصف وابق في مكتبك طوال الدوام ولا تتسيب ولا تصرف دقيقة من دقائق العمل إلا في العمل إلى الساعة الثانية والنصف فإنك بعدها تحس بالتعب لكن تأخذ راتبك حلالاً والله يجعل لك فيه البركة.
بعض الموظفين راتبه (10000) ولا يأتي آخر الشهر إلا وهو يستلف، لماذا؟ لا توجد بركة، وبعض الموظفين راتبه (2000) ويوفر منه ويضيِّف ويبني؛ لأن فيه بركة، ليست البركة في العدد، ولكن في الكيفية التي يجمع منها المال، أما الكم فقد يكون الكم كثيراً منزوع البركة فلا خير فيه، وقد يكون الكم قليلاً فيه بركة ففيه خير كثير.
وهكذا في كل دخل لك إذا كنت موظفاً في شركة، أو كنت بائعاً في دكان عند عمك، انتبه أن تأخذ ريالاً واحداً؛ لأنه حرام، بعض الناس راتبه ألفين (2000) ريال أو (3000) آلاف ريال، ويبيع وآخر اليوم تكون المبيعات (3000) آلاف ريال فيأخذ منها خمسين ريالاً أو مائة أو عشرين يقول: هذه حق المقاضي، وعمه لا يدري وهذا حرام، انتبه لا تأخذ ريالاً واحداً، كن كـ المبارك رضي الله عنه - المبارك - الذي كان مولى -عبد- في بغداد عند مولاه -سيده- وكان مزارعاً في مزرعة لسيده، ثم جاء سيده يوم من الأيام إلى المزرعة من أجل أن ينظر فيها وكان فيها بساتين وثمار، فقال للعبد المبارك: أعطنا رماناً -ومعه بعض الوجهاء- فأتى برمان حامض مثل الليمون، فلما أكلوا منه فإذا طعمه مثل الليمون قال له: يا ولدي! أعطنا غير هذه الرمانة الحامضة، فذهب فأتى برمانة أحمض من الأولى، فقال: لماذا تأتي لنا بالرمان الحامض؟ قال: والله ما أعرف حلوه من حامضه منذ دخلت هذا البستان، قال: لماذا؟ قال: ما أذنت لي آكل منه والله ما أكلت منه حبة واحدة منذ عرفت البستان، قال: أنت في البستان منذ سنوات وما تعرف حلوه من حامضه من أجل الله؟ قال: نعم.
قال لمن معه: أشهدكم أن هذا البستان له -أعطاه البستان كله- ومرت الأيام وتبلغ بنت عند هذا الرجل التاجر بنت ذات دين وذات أمانة وذات خلق، بلغت مبلغ الزواج، فيأتي إلى الرجل هذا المبارك -وهو عبد قد أعتقه لوجه الله وأعطاه البستان- وقال له: يا مبارك! قال: نعم.
قال: لدي بنت أريد أن أزوجها، فأشر عليَّ من أزوج، قال له: اليهود يزوجون للمال، والنصارى يزوجون للجمال، والعرب الجاهليون يزوجون للحسب والنسب، وأتباع محمد صلى الله عليه وسلم يزوجون للدين، ابحث عن أهل الدين، ابحث عمن تنتمي إليهم، إن كنت من اليهود ابحث عن رجل (مليونير) وإن كنت من النصارى فابحث عن أشقر أو أحمر، وإن كنت من أصحاب أبي جهل فابحث لك عن فلان بن فلان بن فلان، وإن كنت من أتباع الرسول صلى الله عليه وسلم فابحث عن مؤمن يخاف الله، فقال الرجل: والله ما أظن أحداً على وجه الأرض أدين منك، أنا زوجتك ابنتي، قال: قبلتها، فتزوجت بهذا الرجل وولدت له عبد الله بن المبارك إمام من أئمة التابعين رضي الله عنه وأرضاه.
فاترك المال الحرام، فمن ترك حراماً من أجل الله عوضه الله خيراً منه.
تذكر كتب العلم: أن رجلاً حج قبل أربعين سنة من أهل مصر إلى بيت الله الحرام، وانتهى به الحج ولم يرجع، وظل يبحث عن عمل فلم يجد، ومرت عليه أيام وليالي ما ذاق طعم العيش، خرج من المسجد الحرام يوماً من الأيام في صلاة الظهر وإذا به يجد أمام الباب منديلاً أخضر ففتحه وإذا بداخله عقد بمائة ألف درهم -عقد لؤلؤ- فوضعه في جيبه، وقال في نفسه: والله إن فرحتي بهذا العقد لا تعدل حزن صاحبه عليه، ثم جلس في مكانه، وإذا بذلك الرجل يصيح: يا جماعة الخير! من وجد منديلاً صفاته كذا وكذا، فلما سمعه ناداه فقال له: ما هو لونه؟ قال: أخضر، قال: ما الذي داخله؟ قال: عقد، قال: هل هو هذا؟ قال: نعم.
قال: تفضل، فأخرج ذاك ألف درهم وأعطاه إياها، قال: والله لا آخذ شيئاً إلا من الله وهو يموت جوعاً، قال: لو أني كنت آخذ المال لأخذت العقد مع أن المال حلال لو أخذه، لكن قال: والله ما آخذ جزائي وثوابي إلا من الله، أخاف آخذ المال فيمنعني مما عند الله.
وخرج وظل أياماً وليالياً يبحث عن عمل حتى وجد له عملاً بسيطاً، ثم استطاع أن يصل إلى جدة، ومن جدة ركب البحر يريد بلده، وفي البحر تضطرب السفينة وتغرق ويغرق كل ركابها إلا هذا الرجل نجاه الله على لوح خشب، وظل أياماً وليالياً وهو يسبح في البحر والبحر يتقاذفه والأمواج تتلاطم به، إلى أن قذفت به الأمواج إلى ساحل البحر في منطقة وقام يمشي ووصل إلى قرية من قرى أهل الساحل وجلس عندهم أياماً وليالياً، وكان صاحب دين وصاحب قرآن، وهم أهل خير أحبوه، قالوا: يا شيخ! اجلس معنا، قال: والله أجلس معكم، ولم يرجع إلى بلده، وصار يصلي بهم الصلوات الخمس، وصار يعلم أولادهم القرآن، مكث عندهم حتى أصبح الرجل الأول والأخير فيهم، وعزموا على أن يزوجوه، فقالوا: يا شيخ! أنت الآن منا وأصبحت من أفضلنا، ونريد أن تسكن معنا دائماً ونريد أن نزوجك، قال: ما عندي شيء، قالوا: كل شيء جاهز، استأجروا له بيتاً، ودفعوا المهر، وجاءوا بالبنت وعقدوا ودخل على الزوجة في ليلة العرس، ولما دخل عليها في ليلة عرسها رأى تلك المرأة الجميلة وعلى صدرها العقد الذي رآه في مكة -نفس العقد الذي وجده في مكة هو على صدر البنت- فلما رأى العقد على المرأة رجع وقال: أين والد العروس؟ فلما رآه قال له: هل حجيت قبل سنوات طويلة؟ قال: نعم.
قال: حصل لك شيء في الحج؟ قال: نعم.
قال: ماذا حصل؟ قال: أنا صاحب مال وعندي بنت وحيدة وحجيت واشتريت لها عقداً بمائة ألف درهم ووقع مني عند باب المسجد فوجده رجل ابن حلال وأعطاني إياه وأعطيته جائزة ولم يأخذها، ونذرت في نفسي إن لقيته في الحياة لأزوجه بهذه البنت، لكن ما لقيته، والبنت كبرت فزوجناك، قال: أنا ذلك الرجل، وبدأ يعانقه ويسلم عليه من جديد، ويدخل البيت على البنت وإذا قد العقد معه امرأة، لماذا؟ (من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه).
انتبه يا أخي! لا تأكل الحرام، لا تقل: الدكان إذا أخرجت منه بائع الدخان يبقى الدكان من غير مستأجر، ليكن كذلك، لا تقل: الشقة إذا أخرجت منها المستأجر الذي لا يصلي في المسجد -وأنت تعرف أنه لا يصلي- لا تُؤجر، ولتكن الشقة فارغة طوال حياتها.
لا تأوي محدثاً (لعن الله من آوى محدثاً) وأعظم محدث في دين الله من لا يصلي فرائض الله، حتى يكون راتبك حلالاً، وإيجار شققك حلالاً، وإيجار دكاكينك حلالاً، وحياتك حلالاً، وأولادك حلالاً، وطعامك حلالاً، وتكون حياتك حلالاً، من أجل أن يرضى الله عنك، وأيضاً يطلق بصيرتك وتصبح تنظر بنور الله؛ لأنك قدمت محبة الله في الحلال، وقدمت محبة الله في النظر إلى الحلال، وقدمت محبة الله في عمارة ظاهرك بالسنة، وقدمت محبة الله في عمارة باطنك بالتقوى والمراقبة، وقدمت محبة الله بكف نفسك عن الشهوات المحرمة، وأيضاً قدمت محبة الله في فعل الفرائض التي هي أحب شيء إلى الله، ثم قدمت محبة الله في الزيادة في النوافل حتى أصبحت محبوباً عند الله، وإذا أحبك الله توجهت إليك السعادة من كل جانب.
أسأل الله الذي لا إله إلا هو أن يرزقنا وإياكم حبه، وحب من يحبه، وحب كل عمل يقربنا إلى حبه، اللهم اجعل ما رزقتنا عوناً لنا على ما تحب، واجعل ما زويت عنا فراغاً لنا فيما تحب، واجعل حبك أحب إلى قل