أولاً: من غض بصره عن الحرام: قال العلماء: إن غض البصر يعقبه فتح البصيرة؛ لأن الجزاء من جنس العمل، تغض بصرك عن الحرام يفتح الله بصيرتك على كل ما يرضي الله في الدنيا والآخرة، وتصبح بصيرتك نافذة.
والبصيرة هي التوفيق والتسديد والهداية، أي: أن الله تعالى يَمنُّ عليك بقوة تمكنك من السير في طاعة الله عز وجل، إذا سمعت المؤذن وأنت في غاية الراحة والنوم، والأنس بالزوجة، والدفء بالفراش، تسمعه يقول: الله أكبر! بصيرتك هذه توقظك، حتى إذا أردت أن تنام فإن جنبك لا يطاوعك، قال تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ} [السجدة:16] ما يطيعك جنبك في أن تنام على فراشك، لماذا؟ لأن الجنب هذا مدفوع دفعاً داخلياً منَّ البصيرة التي منَّ الله تعالى بها عليك من غض البصر عن الحرام.
وغض البصر هو وصية الله للمؤمنين في سورة النور، يقول الله عز وجل: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ} [النور:30] وجاء بعد الأمر بغض البصر الحديث عن النور الذي ذكره الله عز وجل، وأنه في قلب عبده المؤمن كمشكاة فيها مصباح! وأن هذا نور يوجد في المساجد! وجاءت بعده الأوامر كلها التي تدل الناس على سعادتهم في الدنيا والآخرة، ومن ضمنها أن الله عز وجل أمر الناس بأن يغضوا من أبصارهم، حتى تضيء هذه الأنوار قلوبهم.
فهذه الأنوار الربانية التي يبحث عنها الناس ويريدونها -وهي نور البصيرة- إذا أرادها المسلم فلها أسباب، من أول أسبابها: غض البصر، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (من غض بصره عن الحرام، أبدله الله إيماناً يجد حلاوته في قلبه إلى يوم يلقاه) وغض البصر ذكر ابن القيم رحمه الله فيه اثنتي عشرة فائدة، وهي من الفوائد التي كل واحدة منها خير من الدنيا وما عليها، ومن أعظمها: تعظيم الله: فأنت تعلم حين تغض بصرك أنك لا تعمل هذا إلا خوفاً من الله، هل من أحد يغض بصره في الدنيا خوفاً من أحد؟ لا أحد يستطيع أن يضبط بصرك في الدنيا إلا الله، أنت إذا أردت أن تنظر في عمارة وفي هذه العمارة نافذة وفي هذه النافذة امرأة، ونظرت أنت إلى المرأة في النافذة، ومرّ بك صاحب العمارة ورآك فقال: لماذا تنظر إلى المرأة؟ أما تستحي؟ فبإمكانك أن تعتذر بأبسط الأساليب وتقول: يا شيخ! أنا لا أنظر إلى المرأة، أنا أنظر في (تلييس) العمارة، (التلييس) ممتاز! أنا أنظر في نافذة الألمنيوم! وعينك أنت في المرأة لكنك أوهمت هذا بقولك أنك تنظر في العمارة، فمن الذي يعلم أن عينك في العمارة أو في المرأة؟ قال تعالى: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر:19] لا تخفى هذه على الله.
فإذا أنت غضضت بصرك، كان هذا دليل قطعي على إيمانك بالله وتعظيمك له، فشعورك بأن الله مطلع عليك ألزمك بأن تغض بصرك خوفاً منه تبارك وتعالى، وهذا الخوف منه هو تعبير عن منتهى العبودية، وهو درجة من درجات الدين اسمها: الإحسان.
فمراتب الدين ثلاثة: إسلام، وإيمان، وإحسان، فالإحسان: أن تعبد الله كأنك تراه فعندما تغض بصرك من أجل الله، كأنك ترى الله عز وجل، فغض البصر من أعظم دلائل الإيمان عند العبد المسلم.
ومن فوائد غض البصر راحة القلب، فالذي يغض بصره قلبه مرتاح دائماً، وذاك الذي يتلفت مسكين! قلبه يتوقد، مثل الدجاجة التي تدور في الشواية، وهذا الذي يوقد قلبه على (شواية) النظر، وكل يوم يذهب، إلى أين تذهب؟ قال: أنظر، ماذا تنظر؟! ينظر إلى ما يقطع قلبه ثم يرجع، بعضهم لا ينام الليل من نظرة واحدة! يخرج إلى السوق أو الشارع وهو خالي القلب والفؤاد، ليس في باله شيء، ثم يرجع إلى البيت وهو حزين، يقال له: تعشى، قال: لا، ما أريد، راجع دروسك، قال: نفسي مسدودة، ماذا بك؟! قال: لا شيء، ثم يزفر زفرة يتقطع لها قلبه! هل يزفر على الأقصى لأنه الآن بيد اليهود، وأن المسلمين الآن يسامون سوء الذلة في الدنيا كلها؟ هل يزفر على الأفغان أو يزفر على الإسلام؟ لا! بل يزفر على امرأة رآها وتقطع قلبه من أجلها، أعوذ بالله من هذه الهمم الدنيئة، والغايات الهابطة! يزفر ويبيت ليله في مرض، أما ذاك المؤمن الذي رآها وغض بصره، فيتعب قليلاً في لحظة غض النظر وحين يصرف المؤمن بصره يجد قوة تدفعه إلى النظر، لماذا؟ لأن الشيطان يريد أن تنظر وأنت تصارعه، لكن إذا ذهب المنظر، وذهب الشيطان شعرت بإيمان تجد حلاوته في قلبك إلى أن تلقى الله.
وأذكر لذلك قصة: ذات يوم وأنا في بيتي جاءني أحد الشباب يزورني، وحان وقت صلاة العصر، وخرجت معه إلى المسجد ثم رجعنا! وفي الطريق قابلنا مجموعة من الفتيات كأنهن عائدات من المدرسة، أو من زيارة، فأنا وهو آخذ بيدي غضضت بصري -وما لي فضل في ذلك- لأني كبير في السن، والشايب الذي ما يغض بصره هذا شايب عائب -والعياذ بالله- ولهذا جاء في الحديث: (ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة منهم: أشيمط زان) كبير في السن وما زال يتلفت في النساء، ولكن المؤمن الذي هو شابٌّ ويغض بصره هذا عظيم، شاب نشأ في طاعة الله، شاب دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله رب العالمين، والشاب المؤمن هذا كان بجواري، المهم غضضنا أبصارنا وكنت أراقبه وجزاه الله خيراً، وكان يغض بصره وعينه في الأرض، وكلما اقتربنا كلما قويت قوة الشيطان على عيوننا، ولما جاوزن من عندنا -وفي قوة لكن في صبر- نظرت إليه وقلت له: غض البصر أفضل أم الالتفات؟ قال: غض البصر أفضل، قلت له: لماذا؟ قال: صبرت قليلاً لكن ليس في قلبي شيء، ولو أني ما غضضت بصري لبقيت مريضاً طوال يومي، فالأفضل أن أصبر قليلاً ولا أصبر كثيراً، الآن الإبرة تصبر عليها من أجل أن تسلم من المرض، لكن بعضهم يقول: لا والله.
أظل مريضاً طوال حياتي ولا يضربوا لي إبرة واحدة، وهذا جنون! لكن اضرب نفسك بإبرة وغض البصر من أجل أن تسلم من المرض، إلى أن يعافيك الله سبحانه، ويعطيك عافية كبيرة إن شاء الله بزوجة حلال، أما أن تبقى مريضاً بمرض النظر إلى أن تسكنك عيونك في النار، فلا؛ لأن من ملأ عينيه بالحرام؛ ملأهما الله من نار جهنم والعياذ بالله.
ففائدة أخرى من فوائد غض البصر: أن الله عز وجل يريح قلبك، فترتاح وتعيش هادئ البال، وهل في الدنيا مطلب أعظم من راحة القلوب؟ والله راحة القلب بطاعة الله أعظم من كل راحة.