ثامناً: الاعتماد على القدر؛ بأن يأتي الشخص ويعصي، وإذا قلت له: لماذا تعصي الله؟ قال: ربما أني شقي، فيقول: ربما أنك سعيد، وما يدريك أنك شقي؟ هل اطلعت على اللوح المحفوظ؟ هل قرأت الكتاب الذي في الأزل؟ لماذا تحتمل أنك شقي ولم تحتمل أنك سعيد، إلا لانهزامك أمام شهوتك، ونفسك الأمارة بالسوء، وتحمل مسئولية سلوكك على قدر ربك، لا.
فليس لك علاقة بما كتب في الأزل، بل لك علاقة بالعمل، فأنت عبد خلقك الله للعمل الصالح، وبإمكانك أن تعمل العمل الصالح، وعندك يقين أن الله لا يظلم مثقال ذرة، فاعمل صالحاً والله لا يظلمك، أما أن تعمل السيئات وتحتج بالقدر، وتقول: ربما أن ربي كتبني شقياً، إذن اصفعه على وجهه، فإذا صفعته، وقال: ما لك تصفعني؟ فقل: ربما أن ربي قد قدر عليَّ ذلك، فسيرفض، ويقول: لا.
ما قدر الله الصفعة أنت الذي فعلتها، فقل: فلماذا لا ترضى بالصفعة، وترضى بالمعاصي التي تقول: إن الله قدرها عليك؟! فالإيمان بالقضاء والقدر ركن من أركان الإيمان، لكن يجب أن نؤمن بالقدر ونعمل بما أمرنا الله به، ونفر من قدر المعاصي إلى قدر الطاعات، ومن قدر الجوع إلى قدر الشبع، ومن قدر الظمأ إلى قدر الري، ومن قدر المرض إلى قدر العلاج، وهكذا، نفر من قدر إلى قدر.
لما دخل عمر بن الخطاب الشام ومعه أبو عبيدة بن الجراح ومجموعة من الصحابة، وذهبوا إلى عمواس، وجدوا الطاعون أمامهم، فقال عمر: [لا ندخل، فقال أبو عبيدة: أفراراً من قدر الله يا أمير المؤمنين! -أي: أتفر من قدر الله وهو المرض من أجل أنك تخاف على نفسك- قال: لو قالها غيرك يا أبا عبيدة! نفر من قدر الله إلى قدر الله] فهذا هو الفهم الصحيح للإسلام.
أترون هذا المؤمن الذي يقع في المعاصي ويحتج بالقدر مثله مثل: مدرس في فصل فيه ثلاثون طالباً، ودخل عليه المدير والموجه وقالوا له: كم تقدر نسبة النجاح عندك من خلال معرفتك بالطلاب؟ فقال المدرس؛ لأنه يعرف الطلاب ويعرف الفروق الفردية بينهم، قال: أتوقع أن ينجح ثمانية وعشرون طالباً، إلا طالبين لن ينجحا، فهو يعرف أن في الفصل طالبان لا يحضران درساً، ولا يصغيان لشرح، ولا يتجاوبان مع المدرس، فقام أحد الطلاب الثلاثين ووضع الدروس ولم يحضر درساً، وحين جاء آخر السنة وطلعت شهادته ساقط، وعليها عشرون دائرة حمراء قال له أبوه: لماذا سقطت؟ قال: إن الأستاذ في أول السنة حين دخل علينا المدير والموجه، قال: سوف يسقط طالبان، فربما أني أحدهما، فما رأيكم في هذا العذر؟ أهذا ينفع؟ لا ينفع عند المدير ولا عند الأب، فكيف ينفع عند الله؟! أتعمل المعاصي وتقول: ربما أن الله قدر عليَّ؟ لماذا لا تحتمل أن يكون القدر أحسن؟ أما قضية القدر فليست لك أنت، فالله هو المقدر وأنت المقدر عليك أن تسير في أمر الله.
إذا أذن المؤذن فهل تملك قدرة على الصلاة؟ نعم.
أما إذا قدر الله عليك وأصابك حادث مروري وتقطعت رجلاك، فهل يكلفك الله أن تصلي في المسجد، أم يعفيك؟ بل يعفيك، ويجوز لك عندها أن تصلي في البيت، وإذا مرضت فلم تستطع أن تقوم لتصلي، فصل قاعداً.
لكن أن تكون عندك القدرة على أن تصلي وتقعد، وعندك القدرة على أن تصلي وتنام، فعندها أنت مؤاخذ؛ لأنك تملك الوسيلة التي تستطيع أن تعمل بها العمل الصالح.
هذه أيها الإخوة! بعض المغالطات التي يغالط بعض الناس أنفسهم بها، والمغالط لنفسه هو أضيع الناس، يمكنك أن تغالط الناس لكن أن تغالط نفسك، فلحساب من؟ لحساب الشيطان الرجيم.
فيا إخوتي في الله! عوداً على بدء، أكرر وأقول: لا بد من الإيمان والعمل الصالح، كمؤهلات نعتمد عليها لترشيحنا إلى أن ننال رحمة الله عز وجل، ولن ندخل الجنة بالعمل؛ لأنه لا قيمة لعمل أمام جزاء لا يعلمه إلا الله، أي: مهما عملت من عمل فهل يساوي شيئاً مما في الجنة مما أعده الله لك؟ لا.
لكنه مؤهل وسبب، وإلا فالدخول برحمة الله عز وجل.
فلنحذر -أيها الإخوان- من الاتكال على المغالطات، ولنتق الله في أنفسنا، ونتوب إلى الله من الذنوب صغيرها وكبيرها، ودقيقها وجليلها، وأن نحافظ على الطاعات، وأن نصبر -أيها الإخوة- فإنما هي أيام معدودة، وساعات محدودة، وسنين معينة، وسوف ننتقل منها إلى الدار الآخرة، وهناك سيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.
ووصية أقولها للإخوة الذين يسألون ويقولون: وكيف نواجه المعاصي؟ كيف نواجه هذه الشهوات العارمة، وهذه السيول الجارفة من الذنوب؟ أقول واجهوها بأمرين: الأمر الأول: الصبر.
والأمر الثاني: اليقين.
فتصبر عن الزنا وعندك يقين أن الله سيعوضك في الجنة بالحور العين، وتصبر عن الغناء وعندك يقين أن الله سيعوضك بأن تسمع غناء الحور في الجنة، وتسمع خطاب رب العالمين، وتصبر عن النظر المحرم في الدنيا وعندك يقين أن الله سوف يمتعك بالنظر إلى وجهه الكريم في الدار الآخرة، وتصبر على الصلاة، والطاعة وعندك يقين أن الله سيثيبك، يقول الله عز وجل: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24] يقول ابن تيمية رحمه الله: لا تنال الإمامة في الدين إلا بالصبر واليقين.
هذا وأسأل الله في الختام أن يوفقني وإياكم إلى ما يحبه ويرضاه.