ومن ضمن ما ذكرنا في الدرس الماضي: علامة اقتراب الساعة بانشقاق القمر: التي قرأ علينا الإمام أوائل سورتها في الركعة الأولى من صلاة المغرب.
وهذه علامة، مع الإشارة إلى اقتراب الساعة، فالله يقول: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر:1]، وانشقاق القمر دليل على قربها، وقد حدث انشقاق القمر في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، كآية من آيات الله، وعلامة من علامات صدق رسول الله حين طلب المشركون منه أن يشق القمر، فدعا الله فانشق القمر، صارت فلقة وراء جبل أبي قبيس، وفلقة وراء الجبل الثاني، ورآها أهل الأرض كلهم، ليسوا فقط أهل مكة، وتناقل الركبان والمسافرون وأهل الطرق وأهل البُرُد تناقلوا أنه حصل انشقاق في ليلة من الليالي، كانت تلك الليلة؛ ولكن الكفار لما انشق القمر ما آمنوا، قالوا: سحرنا، قال الله عزَّ وجلَّ: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ * وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ * وَكَذَّبُوا} [القمر:1 - 3] المكذب ما فيه حيلة، الآن لو قلت لرجل: هذا (ميكرفون) قال: لا.
هذه عصا، تقول: يا أخي! (ميكرفون) قال: هذه عصا، هذه من عصي البدو.
تقول له: يابن الحلال، انظر! فيه سلك، وفيه ضغط، قال: أبداً، والله إنها عصا.
أتستطيع أن تقنعه؟! إنه مكذب، لا يريد أن يصدقك أصلاً، فهؤلاء يأتي لهم الرسول صلى الله عليه وسلم بجميع الآيات الدالة على عظمة الله تبارك وتعالى، وعلى صدق رسالته، ومع ذلك يكذبون، قال الله: {وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ * وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ} [القمر:3 - 4] جاءهم من الأنباء، ومن الآيات والدلالات ما يكفي: {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ * حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ * فَتَوَلَّ عَنْهُمْ} [القمر:4 - 6] اتركهم، {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ * خُشَّعاً أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ} [القمر:6 - 7] الأجداث: القبور، والتشبيه بالجراد: لأن الجراد أضعف شيء، والجرادة ترونها إذا خرجت وطاردها أحد كيف تقف وتقع وترمي نفسها في النار، ولهذا يخرجون من قبورهم مساكين كالجراد، {كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ * مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ} [القمر:7 - 8] لم يعد هناك رفعة رأس، لم يعد هناك تكبر في ذلك اليوم، كثير من الناس الآن عندما تقول له: اتقِ الله، يقول: اذهب يا شيخ، فُكَّنا منك، أنت مطوِّع، قال الله فيه: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْأِثْمِ} [البقرة:206] نَفَخَ إبليس، قال الله: {فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ} [البقرة:206] تكفيه جهنم، والله إنها كافية، {وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} [البقرة:206]، ذاك اليوم لم يعد فيه تكبر، لا يتكبر الإنسان بماله، ولا بجاهه، ولا بمنصبه، ولا بوضعه الاجتماعي وطبقته، ولا يتكبر الإنسان بأي شيء من الدنيا؛ لأنه فقير من كل شيء في الدنيا، يخرج من الدنيا عارياً، ما معه منها، إلا خرقة الكفن، مثل ما مع الفقير، ولهذا ما الذي يتكبر به؟! يقول: أنا صاحب عَظَمة؟! أنا صاحب سعادة؟! أنا صاحب فخامة؟! أنا صاحب وجاهة؟! ما عنده شيء، الملِك والمملوك، والكبير والصغير، والأمير والمأمور، كلهم يخرجون سواء، ما رأينا أحداً دُفن في القبر ببدلته، ولا برتبه، ولا بتيجانه، ولا رأينا أحداً دُفن بعقاله وبشته، ولا رأينا أحداً دُفن بأمواله وشيكاته، وإنما يقول الله: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ} [الأنعام:94] خولناكم مناصب وأموالاً وأولاداً؛ لكي تشكروا الله عليها، وتستخدمونها في طاعة الله، فأبيتم ذلك: {وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} [الأنعام:94].
{وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ * حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ * فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ * خُشَّعاً أَبْصَارُهُمْ} [القمر:4 - 7] خُشَّعاً: لا يرفع أحد منهم عينه طرفة، الآن الذي يخرج إلى القصاص وهو مكتف، وينزل من السيارة، وتراه يتلفت في الناس هكذا، يرى صفة العسكر، ويرى وراءهم الرجال والناس، ما رأيكم؟ كيف يكون وضعه، وكيف تكون نفسيته، وكيف يكون بصره، خاشع، خاضع، مسكين، في وضع لا يعلمه إلا الله، الناس الذين يشاهدون يفعلون هكذا (يرتجفون)، كل شخص منهم ترتجف ركبتاه، وهو يشاهد، مع أنه لن يذبح، ولن يضرب بالسيف، فكيف بالذي وسط الحلقة؟! وإذا أجلسوه وهو يسمع الميكروفون يعطي بياناً من وزارة الداخلية: أقدم فلانٌ -وهو يعرف أنه هو- على قتل فلان، وقد صدر الحكم الشرعي بقتله، وهاهو الآن أمامكم يُنَفَّذ فيه حكم الإعدام، كم مرارةً يجدها؟! وكم ألماً يتجرعه؟! وكم حسرة يعيش فيها؟! وهي كلها لحظات، من ساعة أن ينزل من السيارة إلى أن يُضرب، كلها خمس دقائق أو عشر دقائق، وينتظر البندقية وهي تخترق ظهره وتخرج كبده أمامه، ثم بعد ذلك يموت.
لكن يوم القيامة ليس لحظات، بل خمسون ألف سنة، ليس بهذا الوضع، لا.
في وضع أعظم من هذا بملايين المرات، يقول الله عزَّ وجلَّ: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْأِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ * قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ} [غافر:10 - 11] أتوجد فَكَّة من هذه النار؟! {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ * مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُوسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ} [إبراهيم:42 - 43] يقول المفسرون: الفؤاد هواء: يعني: فراغ من الخوف، لم يعد فؤاده في مكانه، أصبح فؤاده في حنجرته، {وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ} [الأحزاب:10] ماذا؟ {الْحَنَاجِرَ} [الأحزاب:10] أنت الآن في الطائرة إذا ذهبت في رحلة، ثم حصل مطب هوائي، ما الذي يحصل؟ يصعد نَفَسك إلى هنا، ولهذا يقولون: اربط الحزام لكي تجهز نفسك، ستموت إذا جاءك مطب، هذا من أجل مطب هوائي، وربما يكون سبباً في سقوط الطائرة ونزول مترين أو عشرة أمتار أو مائة متر؛ لكن كيف يوم القيامة؟! يقول: {مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ} [القمر:8] والله يوم صعب.