Q لكل هداية بداية، ونريد أن تحدثنا عن بداية الهداية لفضيلتكم، لعلنا نسترشد بها في مسالك الحياة، وجزاكم الله خيراً؟
صلى الله عليه وسلم حقيقة لكل هداية بداية، بفطرتي كنت أؤمن بالله، وحينما كنت في سن الصغر كنت أمارس العبادات وكان ينتابني شيء من الضعف والتسويف على أمل أن أكبر وأبلغ مبلغ الرجال حينما أكون مكلفاً، فكنت أتساهل في فترات معينة في الصلاة، فإذا ما حضرت جنازة أو مقبرة أو سمعت موعظة في مسجد ازدادت عندي نسبة الإيمان؛ فأحافظ على الصلاة فترة معينة مع السنّة، وبعدما أستمر أسبوعاً أو أسبوعين أترك السنّة، وبعد أسبوعين أو ثلاثة أترك الفروض، حتى تأتي مناسبة أخرى تدفعني إلى أن أصلي.
وبعد أن بلغت مبلغ الرجال وسن الحلم، لم أستفد من ذلك المبلغ شيئاً، وإنما بقيت على وضعي في التمرد وعدم المحافظة على الصلاة بدقة؛ لأن من شب على شيء شاب عليه، حتى تزوجت، وكنت أصلي أحياناً وأترك أحياناً، فليس هناك التزام قوي بالدين، رغم أنه كان عندي إيمان قوي بالله، حتى شاء الله تبارك وتعالى في مناسبة من المناسبات كنت فيها مع أخ لي في الله لعلكم تعرفونه، وهو فضيلة الشيخ سليمان بن محمد بن فايع بارك الله فيه، وهذا كان سنة (1387) هـ، نزلت من مكتبي وأنا مفتش تربية رياضية وكنت ألبس الزي الرياضي، والتقيت به على باب إدارة التعليم وهو نازل من قسم الشئون المالية، فرحبت به؛ لأنه زميل الدراسة، ولكن أنا في اتجاه وهو في اتجاه، أنا في الكرة وهو في العلم وطلب العلم، فلما رحبت به وأردت أن أودعه، قال لي: إلى أين؟ وكان هذا في رمضان سنة (1387) هـ؛ أي: قبل إحدى وعشرين سنة، قلت له: إلى البيت لأنام، وكانت عادتي أن أذهب بعد نهاية الدوام إلى البيت فأنام إلى المغرب دون أن أصلي العصر، إلا إذا استيقظت قبل المغرب، وأنا صائم.
فقال لي: يا أخي! لم يعد هناك فرصة، فالعصر قريب، دعنا نتمشى، فقلت له: طيب، فمشيت أنا وهو على أقدامنا، وصعدنا إلى سد وادي أبها ولم يكن آنذاك سداً ولا يزال المكان فارغاً، وكان فيه غدير وحشائش ورياحين وروائح طيبة، فجلسنا هناك حتى أذن العصر وتوضأنا وصلينا ثم نزلنا، وفي الطريق ونحن نازلين ويده في يدي، قرأ علي حديثاً كأنما أسمعه لأول مرة، وأنا قد سمعت هذا الحديث؛ لأنه من الأحاديث المشهورة، لكن حينما كان يقرأه كان قلبي ينفتح له، حتى لكأني اسمعه لأول مرة، هذا الحديث هو حديث البراء بن عازب رضي الله عنه رواه الإمام أحمد في مسنده ورواه أبو داود في السنن، قال رضي الله عنه: (خرجنا في جنازة رجل من الأنصار؛ فجئنا إلى القبر ومعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فوجدنا القبر لمّا يلحد، فجلس عليه الصلاة والسلام على شفير القبر وقال: إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة نزلت عليه ملائكة من الجنة ومعها حنوط من الجنة وكفن من الجنة، فيجلسون للميت على مد البصر، ثم يأتي ملك الموت فيقول: يا أيتها الروح الطيبة اخرجي إلى روح وريحان وإلى رب غير غضبان).
المهم ذكر لي الحديث كله من أوله إلى آخره، وانتهى من قراءة الحديث حينما دخلنا أبها في ساحة البحار، وهناك سنفترق سأذهب أنا إلى مقر سكني وهو سيذهب إلى مقر سكنه، فقلت له: يا أخي! هذا الكلام من أين أتيت به؟ قال: هذا في رياض الصالحين، قلت: وأي كتاب تقرأ أنت؟ قال: أقرأ كتاب الكبائر للذهبي، فودعته وذهبت إلى المكتبة مباشرة، وكانت آنذاك مكتبة واحدة بـ أبها اسمها مكتبة التوفيق، صاحبها إدريس الحازمي، فاشتريت منه كتاب الكبائر وكتاب رياض الصالحين، وهذان الكتابان هما أول كتابان أكتنفهما، وفي الطريق وأنا ماضٍ إلى البيت أقول لنفسي: أنا الآن على مفترق الطرق، وأمامي الآن طريقان: الطريق الأول: طريق الإيمان ويوصل إلى الجنة، والطريق الثاني: طريق الكفر والنفاق والمعصية ويوصل إلى النار، وأنا الآن واقف؛ فأي الطريقين أختار؟ العقل يتحكم ويتدخل ويقول: الطريق الأول طريق الإيمان، والنفس الأمّارة بالسوء المغمورة بالشبهات، المدفونة بالشهوات تقول لي وأنا ماض إلى البيت: لا.
امشِ الآن وسأخبرك بعد ذلك، إذا كبرت يمكن أن تتوب ويهديك الله، أما الآن فأنت لا تزال شاباً وصغيراً، فأستشير العقل، فيقول العقل: لا تطع هذه، هذه غدارة.
كل هذه الأفكار وهذه الصراعات كانت تدور في ذهني وأنا ماضٍ إلى البيت، حتى وصلت إلى البيت وأفطرنا، وبعد صلاة المغرب، صلينا العشاء تلك الليلة وصلاة التراويح، ولم أذكر أنني صليت التراويح كاملة إلا تلك الليلة، كنت قبلها أصلي ركعتين وأذهب، وأحياناً إذا رأيت أبي أصلي أربع ركعات وأذهب.
وفي تلك الليلة صليت التراويح كاملة، وانصرفنا من الصلاة، ورأساً توجهت إلى الأخ سليمان في بيته، فوجدته خارجاً من المسجد، فذهبت معه إلى البيت وقرأنا تلك الليلة في أول كتاب الكبائر أربع كبائر: الكبيرة الأولى: الشرك بالله، والكبيرة الثانية: السحر، والكبيرة الثالثة: قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، والكبيرة الرابعة: ترك الصلاة، وحينما قرأناها وانتهينا منها كان ذلك قبل السحور، قلت في نفسي: أين نحن من هذا الكلام؟! فقال لي: هذا في كتب العلم ونحن غافلون عنه، قلت: والناس أيضاً في غفلة عنه، الناس الآن في غفلة لا بد أن نقرأ عليهم هذا الكلام، قال: ومن يقرأ؟ قلت: أنت.
فقال: بل أنت فالقراءة سهلة ولكن من يقف، وأخيراً استقر الرأي على أن اقرأ أنا هذا الكلام.
فأتينا بدفتر وكتبنا فيه الكبيرة الرابعة: كبيرة ترك الصلاة، ومن الأسبوع نفسه في يوم الجمعة، وفي أول مناسبة وقفت في أحد المساجد وهو الذي يصلي فيه الآن الشيخ مداوي الجابر، الذي بجوار مركز الدعوة ولعلكم تعرفونه، وكان في أبها مسجدين فقط للجمعة: الجامع الكبير وهذا المسجد، فوقفت فيه بعد صلاة الجمعة، وقرأت على الناس هذه الموعظة المؤثرة التي من يراجعها منكم يجد فيها فائدة كبيرة، وكانت السبب بفضل الله عز وجل في هدايتي واستقامتي، وأسأل الله تبارك وتعالى أن يقيمني وإياكم على الصراط حتى نلقاه إنه على كل شيء قدير.