المرحلة الثالثة: وتأتي المرحلة الثالثة من الحياة وهي: عالم البرزخ في القبر.
وعالم البرزخ يختلف عن عالم الدنيا كاختلاف عالم الدنيا عن عالم الأرحام, يوضع الناس في قبورهم وينعم أهل الإيمان ويعذب أهل الكفر والفسوق والعصيان, ظاهر القبور تراب وباطنها نعيم أو عذاب, كيف؟ قد يكون ما بين القبرين إلا نصف متر, أحدهما: في روضة من رياض الجنة، والآخر: في حفرة من حفر النار ليس بينهما فاصل إلا شيء يسير، كيف؟ يجيب على هذا السؤال ابن القيم رحمه في كتابه الروح يضرب مثالاً لذلك فيقول: ينام الرجلان على سريرين مختلفين, ويرى الأول رؤيا حسنة، يرى أنه تزوج وأنه دخل بزوجته, وعاش معها ليلة العمر, ويرى الثاني رؤيا سيئة، رأى أن رجلاً اعتدى عليه بسكين وجعل يطعنه في بطنه وفي قلبه وفي جسمه مضت ليلته وهو يُطعن, فعاش طوال الحلم والليل في عيشة سيئة, وفي الصباح جاء شخص وأيقظ الأول وقال له: قم, ولما قام وإذا به ما عنده المرأة, فيتلفت فإذا بالسرير والفراش ما عليه أحد, ماذا سيقول؟ يقول: ليتك ما أيقظتني، لقد كنت في حلم رائع، كنت أتمنى لو مكثت فيه سنة.
وذاك إذا جاء شخص أيقظه: يا فلان قم, أول ما يقوم يقول: الحمد لله وينظر إلى جسمه هل هناك طعن ودم, فإذا به لم ير شيئاً.
ما لك؟ قال: الحمد لله، والله لقد كنت في حلم مزعج، رأيت شخصاً يطعنني بالسكين طوال الليل في قلبي وبطني وفي صدري وفي جنبي, الحمد لله أن هذا حلم وليس بحقيقة.
فهذا تنعم في النوم، وهذا تعذب في النوم، ولكن من التي تنعمت وتعذبت عندهم؟ إنها الروح, تنعمت روح هذا في المنام فانعكس نعيم الروح على الجسد، وشعر الجسد باللذة بالرغم أنه لا توجد امرأة, وذاك تعذبت روحه في المنام بالطعن فتعذب الجسد بالرغم من أنه لا يوجد طعن في الجسد, كذلك الناس في قبورهم، صاحب الإيمان في قبره روحه تنعم, رغم أن جسده أصبح تراباً, لكن يتنعم الجسد عن طريق الروح, وذاك صاحب الكفر تتعذب روحه في قبره ومع أن البدن قد أصبح تراباً, إلا أنه يناله العذاب حتى تقوم القيامة.
وتتم مساءلة للإنسان في قبره في هذه المرحلة عن طريق ملكين من الملائكة هما: منكر ونكير, يسألان الرجل ويقولان له: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ ومن رحمة الله أن الله كشف لنا الأسئلة وأخبرنا بالامتحان؟ وقال: الأسئلة ثلاثة: من ربك؟ ما دينك؟ من نبيك؟ الجواب سهل: ربي الله, ديني الإسلام, نبيي محمد صلى الله عليه وسلم, لكن من الذي يقول هذه الكلمات الثلاث؟ لا يتكلم هناك إلا الصدق {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [إبراهيم:27] يلهمه الله حجته ويقول: ربي الله, وديني الإسلام, ونبيي محمد صلى الله عليه وسلم -اللهم ثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة- يا أخي! ما أعظم أن يثبتك الله وتقول هذه الكلمات.
جاء في حديث البراء بن عازب -في مسند أحمد وفي سنن أبي داود والحديث صحيح- مرفوعاً قال: (إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبالاً على الآخرة، نزلت من الجنة ملائكة معها حنوط من الجنة وكفن من الجنة، فيجلسون له مد البصر، ثم يأتي ملك الموت فيقول: يا أيتها الروح الطيبة -كانت في الجسد الطيب- اخرجي إلى روح وريحان وإلى رب غير غضبان, فتخرج روحه وتسيل كما تسيل القطرة من فم السقاء، فلا يدعوها في يده طرفة عين حتى يضعوها في ذلك الحنوط والكفن, ثم يصعدون بها إلى السماء، فتفتح لها أبواب السماء، حتى يوصل بها إلى الرب، فيقول الله عز وجل: اكتبوا كتاب عبدي في عليين -أي: احجزوا له مكاناً في عليين أعلى درجات الجنة- وأعيدوا روحه إلى جسده فإني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى, فتعاد روحه إلى جسده، حتى إنه ليسمع قرع نعال الذين دفنوه ويأتيه الملكان فيقعدانه، ثم بعد ذلك يسألانه ويقولان له: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ فيثبت الله المؤمن ويقول: ربي الله، وديني الإسلام، ونبيي محمد صلى الله عليه وسلم, فيقولان له: صدقت, وينادي مناد من السماء: أن صدق عبدي, افرشوا له من الجنة، وافتحوا له باباً إلى الجنة, فيأتيه من روحها ونعيمها ويقول: رب أقم الساعة، وينام كما ينام العريس) نسأل الله أن يجعلنا وإياكم مثل هؤلاء.
أما الآخر والعياذ بالله قال: (وأما العبد الفاجر إذا كان في انقطاع عن الآخرة وإقبال على الدنيا، نزلت من النار ملائكة معها مسوح من النار، فيجلسون له مد البصر, ويأتيه ملك الموت ويقول: يا أيتها الروح الخبيثة -كانت في الجسد الخبيث- اخرجي إلى سخط من الله وغضب, فتتفرق روحه في جسده، ثم يجذبها كما يجذب السفود من الصوف المبلول, فتخرج ثم لا يدعوها في يده طرفة عين, حتى يأخذوها فيضعوها في تلك المسوح، ثم يصعدون بها إلى السماء فتغلق أبواب السماء دونها -لا يسمح لها بدخول السماء- ثم قرأ رسول الله قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [الأعراف:40]) إذا دخل البعير من ثقب الإبرة دخل الجنة, وهذا يسمونه التعليق على المستحيل أي: مستحيل أن يدخل الكافر الجنة.
قال: (ثم يقول الله عز وجل: أعيدوا روحه إلى الأرض، واكتبوا كتابه في سجين، فإني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى, فتعاد روحه ترمى من السماء -يقول الله عز وجل: {فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج:31]- فتعود روحه إلى جسده، ويأتي الملكان ويقولان له: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ فيضله الله ولا يعرف الجواب -قال الله: {وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27]- فيقول: هاه هاه هاه لا أدري, فتقول: كذبت لا دريت ولا تليت, وينادي مناد من السماء: أن كذب عبدي, ثم يضرب بمطرقة من حديد, ثم يضيق عليه في القبر حتى تختلف أضلاعه، ثم يفتح له باب إلى النار ويقال له: نم كما ينام اللديغ).
هذه فترة البرزخ, ولهذا القبور على صنفين -كما ذكرنا- وعذاب القبور حق، وقد أُمرنا بالاستعاذة من عذاب القبر، ففي الصحيحين أمر النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة -والأمر موجه إلى الناس والأمة أيضاً- أن يقولوا قبل السلام وبعد الانتهاء من التشهد: (اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال) فمن السنة أن تقول هذا الذكر؛ لأنه أمر به صلى الله عليه وسلم.