الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها الأحبة في الله: يلقى هذا الدرس في مسجد الشوربتلي بمدينة جدة بعد مغرب يوم السبت الموافق (29) من شهر محرم من عام 1417 للهجرة، على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى السلام, وهو ضمن سلسلة التأملات القرآنية وعنوانه: رحلة الحياة.
وتأملات هذه الليلة في آيات كريمة جاءت في كتاب الله تضمنت رحلة الإنسان منذ أن يوضع نطفة في رحم أمه إلى أن يستقر قراره إما إلى الجنة أو النار, رحلة مضنية وشاقة, رحلة لم يؤخذ للإنسان فيها رأي, فهو يخلق دون رأيه, ويموت دون رغبته, ويبعث رغم أنفه, ثم يحاسب ويجازى على سلوكه في هذه الحياة, ثم يوجه في النهاية إما إلى الجنة إن كان من أهل الإيمان -نسأل الله أن يجعلنا جميعاً منهم- أو يوجه ويسحب على وجهه إلى النار إن كان من أهل الكفر والفسوق والعصيان -أعاذنا الله جميعاً منهم-.
هذه الآيات جاءت في سورة المؤمنون يقول الله عز وجل: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} [المؤمنون:12 - 16] هذه الآيات تضمنت مراحل خلق للإنسان, ومراحل سفره, بدأت أول مرحلة يوم خلق الله عز وجل آدم من طين, ثم جعل هذا الطين في سلالته وذريته, يتم عن طريق النطفة -الحيوان المنوي- وهذه الرحلة الطويلة تتم عبر خمس مراحل: المرحلة الأولى: عالم الأجنة في الأرحام.
المرحلة الثانية: عالم الحياة الدنيا.
المرحلة الثالثة: عالم البرزخ في القبر.
المرحلة الرابعة: عالم القيامة.
المرحلة الخامسة والأخيرة: الجنة أو النار.
هذه خمس مراحل من يستطيع أن يفلت منها؟ من يستطيع أن يقول: أنا لا أريد أن أموت أريد أن أجلس في هذه الدنيا إلى آخر شيء؟ هل يطاع في طلبه هذا؟ لا.
زرت في مرة من المرات ثرياً من الأثرياء في مكة لأعرض عليه مشروعاً من مشاريع الخير, وبعد أن وعظته قال لي: لا بد من البعث؟! -يعني: لا مناص من البعث؟! - قلت: لا بد أن تبعث.
قال: والذي يريد أن يموت ولا يريد أن يبعث.
قلت: الذي لا يريد أن يبعث فليدفع عن نفسه الموت، حتى لا يبعث، إذا أتاه ملك الموت فليقل: لا أريد أن أموت, أريد أن أبقى هنا.
قال: ولكن ملك الموت لن يوافق.
قلت: وكذلك يوم القيامة تبعث رغماً عن أنفك، فكما تموت تبعث؛ فحقائق الخلق والموت والبعث جاءت في هذه الآيات متلازمة مترابطة: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ} [المؤمنون:12] هذا بداية الخلق, ثم بعدها مراحل الخلق المختلفة, ثم بعد ذلك {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ} [المؤمنون:15] واللام هنا تسمى لام التأكيد, يعني: هذا شيء لا بد منه, وتأمل في واقعنا اليوم هل يستطيع أحد أن يفلت من الموت؟ لا.
بل يموت الكبير والصغير، والملك والمملوك، والأمير والمأمور، والغني والفقير، والراعي والرعية، والذكر والأنثى، كل الناس يموتون، والله تعالى يقول: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ * كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [الأنبياء:34 - 35].
ثم بعد الموت قال الله تعالى: {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} [المؤمنون:16] ثلاث حقائق مترابطة يلزم من وقوع الأولى وقوع التي تليها, فما دام أنك خلقت إذاً لا بد أن تموت, وما دام أنك مت إذاً لا بد أن تبعث, ولو افترضنا أن رجلاً خلق نفسه ثم قال: أنا لن أموت، لقلنا: إذاً يمكنك ألا تُبعث؛ لأنك استطعت أن تمتنع من الموت، ولكن ما استطعت أن تمتنع من الخلق بل خلقك الله رغماً عنك ولا استطعت أن تمتنع من الموت بل تموت رغماً عنك, ولن تستطيع أن تمتنع من البعث بل سيبعثك الله عز وجل رضيت ذلك أم أبيت, ولهذا لما جاء العاص بن وائل أحد صناديد كفار مكة، مر على المقبرة وأخذ عظماً قد رمّ، وجاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم وفتّه بين يديه وقال: يا محمد! تزعم أننا سوف نعود بعد أن نكون عظاماً؟! فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم في منطق الواثق بربه الذي لا تزعزعه الشبهات, ولا تهزه الكلمات قال: (نعم ويدخلك الله النار) وفعلاً تحققت نبوءة النبي صلى الله عليه وسلم ومات هذا الرجل كافراً وسوف يدخل الله العاص بن وائل النار؛ لأنه مات على الكفر وكذب بالبعث, ونزل الوحي من السماء في آخر سورة (يس) يبين هذه الحادثة يقول الله عز وجل: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ} [يس:78] ضرب لنا مثلاً بالعظم ونسي التأمل في حال خلقه حينما كان تراباً {قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس:78] من يحيها وهي رميم؟ قال الله عز وجل للرسول صلى الله عليه وسلم: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يس:79] الذي خلقها أول مرة أيعجزه أن يردها مرة أخرى؟ سبحان الله! أين عقل الإنسان؟!! {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس:79].
وسنتناول -أيها الإخوة- المحطات الخمس بالتفصيل.