من مظاهر الضعف: سوء الترتيب في أولويات العمل في الدين، فترى الواحد يتحرز تحرزاً كبيراً من النجاسة، ولكنه لا يتحرز من الغيبة والنميمة والبهتان، إذا شعر بأن جزئية بسيطة من النجاسة في ثوبه جاءه قلق وهذا طيب، لكن تراه يجلس في المجلس من حين يجلس إلى أن يقوم وهو يغتاب ويأكل ويبهت وخصوصاً في العلماء؛ فبعض طلبة العلم هداهم الله مجالسهم مشرحة فيها لحوم العلماء، وهذا من أكبر الأخطاء على من ينال من العلماء؛ لأن العالم أو الداعية بشر يمكن أن يخطئ والخطأ يرد عليه، ولكن إذا أخطأ بعد اجتهاد فله أجر، وإذا أصاب بعد اجتهاد فله أجران، ولكن أنت يوم أن أردت أن تشرح لحمه وأن تأكل عرضه حصل عليك الإثم؛ لأن لحوم العلماء مسمومة، ودماؤهم مصونة، وعادة الله في الذين ينالون منهم معلومة.
فأنت عندما لا تتحرز من البسيط ثم تقع في الكبير، هذا يدل على ضعف في إيمانك، هذه ظاهرة تدل على أن عندك ضعفاً، إذ لو أن عندك قوة في دينك وإيمانك ما تحرزت من الصغير ووقعت في الكبير، بل حرصت على عدم الوقوع في الكبير أولاً والصغير ثانياً.
وتراه يكثر من الصدقة لكن أمواله في البنوك في الربا، والله طيب لا يقبل إلا طيباً، يقول الناظم:
أمطعمة الأيتام من كسب فرجها لك الويل لا تزني ولا تتصدقي
أمواله حرام ويبني مسجداً أمواله حرام ويتصدق على الفقراء والمساكين.
يا أخي: الله طيب لا يقبل إلا طيباً، ريال حلال تنفقه والله إنه أعظم عند الله من مليون حرام؛ لأن الله يقبل منك الريال الحلال ويربيه كما يربي أحدنا فلوة حتى يكون كالجبل.
وأما الحرام فإن الله يقول: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} [الفرقان:23].
أيضاً: تجده يتصدق ولكن لا يبالي بتحليل لقمة العيش في عمله الوظيفي، يجيء الساعة التاسعة والنصف ويخرج الساعة الواحدة، يضيع ساعتين من الدوام في أولها وساعة ونصف في آخر الدوام ماذا بك؟ قال: ما عندي عمل!! هذا مسكين، هذا أكل راتباً حراماً، فلابد أن تحضر في أول دقيقة وتنصرف في آخر دقيقة إذا كنت تخاف الله، ولا تتذرع بأنه ما عندك عمل، فإن هذه الوظيفة مرابطة إن كان عندك عمل فاعمل، وإن كان ليس عندك عمل فاستعد للعمل، أما أن تتذرع بأنه ليس عندك عمل لا.
فأنت مستأجر سبع ساعات، أجير عند الدولة، تأخذ راتبها في آخر الشهر، إلا إذا كنت تتأخر وتأتي آخر الشهر تحسب ساعات العمل وتقول: هذه لي والباقي لكم.
لكن من الذي يعملها الآن؟؟ لو خصموا عليه عشرة ريالات أرغى وأزبد وأقام الدنيا وأقعدها، لكن كل يوم يخصم ساعتين أو ثلاث من الدوام ويضيعها من مصالح المسلمين، والذي ترونه الآن من تراكم المعاملات وضياع حقوق الناس كلها بسبب عدم قيام الموظفين بالدوام الرسمي، والله لو أن الموظفين يحضرون أول الدوام وينصرفون آخره، ما تتأخر معاملة عند شخص يوماً واحداً، لكن بعض المعاملات تقعد في مكتب الموظف أسبوعاً أو شهراً أو شهرين لماذا؟ لأنه يأتي متأخراً، وبعدما يأتي يقول: هات الشاي يا ولد، ثم يأتون إليه بالفطور نصف ساعة فطور وكلام! وبعدها يقرأ الجرائد وبعدها قال: أذن الظهر، وخرج يصلي، وبعد صلاة الظهر يأتي المراجعون قال: يا جماعة بعد الظهر ماذا تريدوني أن أعمل؟ أنا مكينة؟! أنا تعبت يا جماعة، تعالوا غداً، ويؤخر معاملات الناس، لكن لو جاء مبكراً هل يظل جالساً إلى أن يأتيه النوم؟ لا.
أنا أعرف بعض الموظفين الطيبين يعملون سبع ساعات تماماً، سبعة ونص وهو على الطاولة يقول: والله إني أفرح بالمراجع إذا جاء، وأفرح بالسكرتير عندما يأتيني بالمعاملات، وأفرح بالكاتب الوارد عندما يحضر المعاملات، لماذا؟ يقول: من أجل أن أتسلى على الأقل، فأقرؤها من أساسها، أقرأ الورقة الأولى والثانية والشروحات ودورة المعاملة وأخرج بنتيجة وأعطيه إجراء ولا تعود عليَّ، لكن ذاك الذي يمررها لا يقرأ آخر كلمة ويقول: لإجراء اللازم.
وبعض الموظفين يكون مسئولاً أو مديراً أو رئيس قسم يقول للسكرتير: اشرحها من عندك، واعطني أوقع فيها، والله ما درس فيها ولا شيء لماذا هذا؟ لأنه ما صرف وقت دوامه في خدمة المسلمين وبالتالي ترتب على هذا أكله للحرام، وتراه ينفق ويتصدق وهذا من ضعف دينه، إذ لو أن في دينه صلابة وقوة لحرص على أن تكون لقمة عيشه حلالاً.
وأيضاً ترى بعض الناس يتهجد طوال الليل لكن ينام عن صلاة الفجر، يقوم مثلاً الساعة الثالثة والنصف أو الرابعة ويصلي، فإذا بقي على الفجر نصف ساعة جاءه الشيطان قال: باقي نصف ساعة نم قليلاً، ونام ومنها إلى الساعة السادسة والنصف أو السابعة هذا مسكين والله لو صلى الدهر كله وما صلى الفجر في المسجد فما له من عمله إلا الخيبة؛ لأن صلاة الفجر في المسجد علامة الإيمان، وعدم الصلاة للفجر في المسجد علامة النفاق والحديث في الصحيحين تعرفونه: (أثقل الصلاة على المنافقين صلاتي العشاء والفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبواً) وتراه يبالغ في رفع ثوبه وتقصيره ولكن لا يهتم بنظافة عينه، ثوبه قصير لكن عينه خربة ينظر إلى النساء، هذا أيضاً هزيل في دينه، إذا رأى امرأة نظر إليها ويعرف أن الله عز وجل يراه.
وتراه يبالغ في تسريح لحيته وتنظيفها ولا يهتم بتنظيف قلبه من الحقد والحسد والغيظ والغضب والأمراض الخطيرة التي تحرق الدين والإيمان، يغضب على فلان، ويحسد فلاناً ويسب فلاناً.
يا أخي! اللحية هذه مظهر من مظاهر الرجولة وسنة من سنن النبوة لكنها يتبعها أشياء أخرى، يتبعها أشياء في القلب، فإذا تممت باطنك بصلاح ظاهرك كان أفضل، لكن إذا كان الظاهر صالحاً والباطن سيئاً -والعياذ بالله- هذا يدل على أنه ما عرف الحقيقة، وأنه هزيل في إيمانه، وضعيف في دينه؛ وبالتالي يخشى عليه إذ لا تغني عنه هذه المظاهر شيئاً.
ومثل هؤلاء مثل إخوة يوسف عليه السلام لما رجعوا بعدما رموا أخاهم يوسف في الجب رجعوا إلى مصر، وكانت تمر إبلهم في المزارع، والمزارع من هنا ومن هنا، وعندهم دقة لا يريدون الجمل أن يأكل من المزرعة فكانوا يكممون أفواه الإبل -نسميها فدامة- وهي قطعة من الخيش من أجل ألا يأكل لماذا؟ قال: حرام يأكل من هذا! وقذف يوسف في الجب حرام أم حلال؟! ومثل بعض الذين قتلوا الحسين كانوا يسألون ويستفتون عن حكم دم البعوضة ولا يستفتون عن حكم دم الحسين وإراقته هذا من سوء الترتيب في العمل الإسلامي.