الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: أيها الإخوة في الله: حتى لا ينخدع الإنسان لا بد من بيان أن هذه الدار دار كسب وتحصيل، وأن الجزاء الذي يحصل عليه الإنسان في الآخرة إنما يكون على ضوء ما كسبه وحصله في هذه الدار، فهذه الدنيا مزرعة وحصادها في الآخرة، ومن يزرع خيراً يجد خيراً، ومن يزرع شراً يجد شراً.
ومن رحمة الله عزَّ وجلَّ أن جعل الآخرة وما أعد فيها من النعيم حصاداً للكسب الذي يستطيع كل إنسان أن يعمله، فلو أن الآخرة تنال بالمناصب لحازها أقوام وحرم منها آخرون.
ولو أن الآخرة تنال بالأموال لاستحوذ واستولى عليها الأثرياء والتجار.
ولو أنها تُحْجَز بالجاه والسلطة والقوة والعضلات والطول والعرض لحرم منها الفقراء والضعفاء والمرضى؛ ولكن من رحمة الله عزَّ وجلَّ أن جعل الآخرة يُحصل عليها بأسهل طريق، وبأقل قدرة وهو: العمل الصالح، وهذا بإمكان كل أحد أن يعمله.
فلا ينفع الإنسان هناك جاه، يقول الله عزَّ وجلَّ عن أهل النار وهم يستلمون كتبهم بشمائلهم: {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة:28 - 29]، ولا ينتفع الإنسان هناك بمال {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89] ولا ينتفع الإنسان هناك بثناء الناس عليه، والله لو أثنى عليك أهل الأرض كلهم، وذمك الله فلن ينفعوك بشيء، ولو ذمك أهل الأرض كلهم وأثنى عليك الله ما ضروك بشيء.
فيجب أن تركز اهتمامك على العمل، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اعملوا يا آل محمد فإني لا أغني عنكم من الله شيئاً -ويقول:- يا فاطمة! لا يأتيني الناس بالأعمال وتأتوني أنتم بالأحساب) فلا يغني حسب يوم القيامة: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ} [المؤمنون:101] أبو جهل القرشي، وأبو لهب عم الرسول صلى الله عليه وسلم فحمة من فحم جهنم.
وبلال الحبشي، وصهيب الرومي، وسلمان الفارسي، وعمار بن ياسر، هؤلاء من ملوك الآخرة، وقد كانوا يباعون بيع الرقيق؛ لكن أعلى قدرهم الإسلام، وأولئك أحرار وصناديد ومن خيار العرب؛ لكن أوضعهم وأنزل قدرهم الكفر والعياذ بالله.
فاحرص يا أخي على العمل، والله لا ينفعك بعد هذه الدار إلا العمل الصالح، التعامل معك هناك سيكون على ضوء عملك هنا، يقول الله عزَّ وجلَّ: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} [النجم:31].
وأحوال الناس يوم القيامة تنقسم إلى ثلاثة أحوال: 1/ أحوال أهل النار من الكفار، أعاذنا الله وإياكم من طريقتهم وشأنهم.
2/ أحوال العصاة من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ممن لهم توحيد؛ لكنهم خلطوا هذا التوحيد بمعاصٍ وسيئات وبذنوب وكبائر؛ لكنهم ضمن دائرة الإسلام، وما خرجوا من الدائرة.
3/ وأحوال السعداء -جعلنا الله وإياكم منهم- الذين استسلموا لله، وخضعوا وانقادوا، وصبغوا حياتهم كلها بصبغة الإيمان، وبرمجوا جميع أوقاتهم وليلهم ونهارهم، وبيوتهم ومزارعهم ومعاملهم وأسواقهم، وجميع تصرفاتهم كلها على ضوء الكتاب والسنة.
ولا يعني هذا أنهم ملائكة لا يخطئون! لا.
بل قد تزل بهم القدم؛ ولكن إذا أخطئوا تابوا واستغفروا؛ لأن الله تبارك وتعالى غفور رحيم، يقول عزَّ وجلَّ: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً} [النساء:31].
ويقول: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ} [النجم:32] واللمم: ذنوب وصغائر يُلِمُّ بها العبد المكلف من غير إصرار ولا تعمد؛ لكن تجده وهو ماشٍِ تقع عليه مثل الغبار الذي يلطخ سيارتك؛ لكن تمسحه مباشرة، لا تنزل بنفسك وتأخذ تراباً وتضعه على الزجاج، وتقول: هذا غبار، لا.
بل شيء عارض، نظرة أو خطرة أو كلمة أو زلة مرت منك كل هذه تجتنبها لكنك تقع فيها، قال عزَّ وجلَّ: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْأِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ} [النجم:32] ثم قال عزَّ وجلَّ: {إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ} [النجم:32] واللمم بسيط، والله عزَّ وجلَّ يغفره {إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم:32].
وقد سبق الكلام على أحوال أهل النار، وأحوال العصاة من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، والآن سيكون الكلام عن أحوال السعداء جعلنا الله وإياكم منهم.