دعوة إلى المبادرة بالتوبة النصوح

إذا كانت العبادة بمفهومها الكامل في وادٍ ونحن في وادٍ آخر فلنراجع أنفسنا، ولنصحح المسار مع ربنا قبل أن نفرط ونجازف بأنفسنا ونذبحها في قضية المصير الخطيرة؛ لأنك قد تجازف في كل أمر وتصحح الخطأ إلا مجازفتك مع الله، فإنك إن مت وقدمت على الله وقابلك الله وهو غضبان عليك، وقد خسر البعيد الخسارة التي لا تعوض، ولم يعد هناك فرصة -أيها الإخوان- للتصحيح، إذا سقطت في الدور الأول تنجح في الدور الثاني، وإذا لم تنجح في هذه السنة قد تنجح في السنة القادمة، وإذا لم توجد لك وسيلة في الدراسة تبحث لك عن وسيلة في الوظيفة، وإذا لم تنجح في الوظيفة هذه تبحث لك عن وظيفة ثانية، وإذا تزوجت زوجة ولم تنجح معها تتزوج بأخرى غيرها، لكن إذا مت ولقيت الله وعرفت أنك خسران -أيها الإنسان- مع الله هل هناك فرصة أن ترجع إلى الدنيا لكي تصحح الخطأ مع الله؟ هل هناك إمكانية إن الله يخبرنا ويقول: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ} [المؤمنون:99] لماذا ترجع؟ ما قال: لعلي أرى أولادي، أو عمارتي، أو مزرعتي، أو دكاني أو تجارتي، بل قال: {لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ} [المؤمنون:100] عرف أنه لا ينفعه في الآخرة إلا العمل الصالح، حسناً لماذا لا تعمل -من الآن- صالحاً؟ من الذي منعك من أن تعمل الصالحات من الآن؟ لماذا تؤخر العمل الصالح؟ أتريد أن تؤخره حتى تموت ثم تطلب أن ترجع لتعمل الصالحات فلا تلبى ولا تجاب؟ رأى أحد السلف جنازة محمولة على الأعناق ومعه أحد تلامذته فقال له: يا بني! ما ظنك لو ردت الروح لهذا الميت؟ قال: يطيع الله فلا يعصيه أبداً -وفعلاً لو أن واحداً من الأموات رجع والله لا يعصي الله أبداً- قال: فكن أنت هو.

يقول: كن أنت كأنك أنت الذي مات موتة وأرجعك الله عز وجل، خذ من موته عبرة، وأنتم كل يوم ترون أمواتاً، هؤلاء الأموات أمنيتهم أنهم يعودون مثلكم يصلون ويصومون، فخذوا من أمنيتهم درساً لكم، ولا تفوتوا على أنفسكم الفرصة، ولا تفرطوا في المجالس فالفرصة ما زالت سانحة لكم؛ لأنكم مهددون بالموت في كل لحظة، فقد يأتي الشيطان فيقول للواحد: أنت ما زلت صغيراً، وأنت الآن عمرك (15) أو (16) أو (18) سنة، يا أخي! عندما تتزوج وتكبر فإنك سوف تتوب، حسناً هل عندك ضمان بأنني سأعيش (20) أو (30) سنة؟ إذا كان عندي ضمان فسأطمئن، لكن ما دام أنني مهدد بالموت فيمكن أن أموت الآن، من يضمن منا ومنكم أن يعيش ويصلي الظهر؟ هل أحد يضمن ذلك؟ والله لا أحد يضمن ذلك.

وأذكر مرة من المرات أن مجموعة من الشباب كانوا يدرسون في كلية الطب في أبها زاروني في البيت، فجلست معهم جلسة مثل هذه الجلسة الإيمانية، وكان في آخر الكلام أنني قلت لهم: يا إخوان! ما عندنا ضمان بالحياة فلا بد أن نسارع بالتوبة، فإن مد الله في أعمارنا؛ لأننا كل يوم نقضيه في طاعة الله، كل يوم نصلي فيه خمس صلوات، وكل سنة نصوم فيها شهراً، وكل سنة نزكي فيها، نحج فيها ونعتمر فيها، ونتصدق فيها، ونعمل خيراً، فمعنى هذا: أن الزيادة في أعمارنا ونحن على العمل الصالح في زيادة خير ورفع الدرجات فأتوب من الآن وأحسن النية وأصحح الوضع مع الله، وأجزم أني لا أعصي الله عز وجل، وأبدأ في الهداية ثم يأتيني القدر غداً، وإذا بي لا أندم، لكن الذي لا يتوب إن جاءه الموت ندم، وإن لم يأته الموت فهو في خسران كل يوم، كل يوم يضيع خمس صلوات، فلو مات اليوم أحسن من أن يموت غداً، لو مات اليوم يكون ذنبه معيناً، لكن لو مات غداً فعليه ذنبه ذاك وعليه ذنب خمس صلوات، لو مات اليوم أحسن من غدٍ؛ لأنه لو مات غداً يكون عليه ذنب الليل الذي سمر فيه على الأغاني، والمسلسلات، ونظر إلى النساء في السوق، ولعن وشتم وسب وسخط وعمل، فسجلت كل هذه السيئات عليه، ولهذا ذنوبه غداً أكثر من ذنوبه اليوم، فموته اليوم أفضل من غد، وموته غداً أفضل من بعد غد، وكلما زاد عمره زاد إثمه.

فقلت لهم هذا الكلام فتأثروا، وكان من فضل الله لهم أن عندهم استجابة وتأثر ثم تابوا، طبعاً المجموعة هم خمسة أنفار منهم واحد صالح والأربعة عاديون، لكنهم جاءوا إلى زيارتي وهو جلبهم، فكلهم أعلنوا التوبة وقالوا: كيف نفعل؟ فقلت لهم: أولاً: الأمر سهل، الماضي كله ما يكلف محو ذنوبه إلا أن تقولوا: أستغفر الله العظيم وأتوب إليه، هل فيها تعب يا إخواني؟ الماضي كله مهما عصيت، ومهما أجرمت، تمحوه كله بكلمة: أستغفر الله العظيم وأتوب إليه، وهذه ليس فيها جهد، بل إن الله يغفر ذنبك كله ويبدله حسنات، ويسجل السيئات كلها كم؟ مليون سيئة، الله يقول: {فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} [الفرقان:70].

هذا الماضي، وأما المستقبل الذي في علم الله ولا ندري عنه، نصلح كل المستقبل بأن ننوي فيه النية الحسنة، فننوي ألا نعصي الله أبداً، وهل في النية تعب؟ بعض الناس تقول له: يا أخي! انوِ خيراً وقل إن شاء الله، قال: والله لا أنوي، سبحان الله! لا تنوي حتى الخير؟! الآن لا يوجد تعب في النية، لا يوجد سوف أقوم أصلي أو سأجاهد أو سأعمل أي شيء، إنما أنوي بقلبي أني لا أعصي الله ولا أضيع فرائض الله في المستقبل، وهذه ليس فيها تعب، فالمستقبل والماضي ليس فيه تعب، وما الذي بقي؟ الحاضر، أجتهد فيه بأن لا أضيع فريضة الله ولا أقع في معصية الله، وهذه ليس فيها تعب، فإذا أذن قمت وأصلي، وإذا رأيت امرأة مسلمة فأغض بصري عنها، وإذا سمعت أغنية تسخط الله أغلقها أو أقوم من المكان الذي فيه هذا المنكر، إذا عرض علي الحرام لا آخذه، إذا قيل لي: امش في الباطل، لا أمشي فيه فهل في هذه الأعمال تعب؟ والله إنها سهلة يا إخواني! والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (وإنها ليسيرة على من يسرها الله عليه).

فقلت لهم هذا الكلام ومن فضل الله قالوا: دلنا على كتاب.

فدللتهم على كتاب الكبائر للإمام الذهبي، وكتاب آخر اسمه الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي لـ ابن القيم، وقيمته قيمة كيلو من العنب، الكيلو العنب بثمانية ريالات والكتاب بستة ريالات، ويمكن شراء هذا الكتاب في نزهة اليوم، بدلاً من أن تتنزه كل يوم بخمسة ريال أو بعشرة.

يمكن أن تصوم هذا اليوم وتأخذ بهذا المبلغ كتاباً، وهذا أول كتاب -حقيقة- اقتنيته في حياتي، وهو الكتاب الذي قلب حياتي رأساً على عقب، كتاب الكبائر، لكن اقرأه بقلب مفتوح وبنية العمل، فيه (67) كبيرة، والكبيرة الأولى: الشرك بالله، والثانية: السحر، والثالثة: قتل النفس، والرابعة: ترك الصلاة، وكل كبيرة تمر عليها تتوب إلى الله منها، فما تنتهي من آخر الكتاب إلا وأنت مسلم حقاً إن شاء الله.

فهؤلاء الشباب أعطيت لهم كتباً وخرجوا من عندي تائبين، وبعد ثلاثة أيام ذهبوا إلى مكة ووقع لهم حادث ومات أحدهم وقد أخبروني بعد ذلك لما جاءوا وهم يبكون، يقولون: والله الذي لا إله إلا هو -كان هذا بعد العمرة، فهم ذهبوا للعمرة ورجعوا- إن صاحبنا كان يطوف بالبيت وهو يقول: أستغفر الله ويبكي من خشية الله، وكان آخر حياته أنه مات إن شاء الله شهيداً، نسأل الله أن يسكنه فسيح جناته.

حسناً ماذا خسر هذا؟ يا إخواني! الإيمان والهداية هي البديل الصالح لهذه الحياة، وهي الخيار الأنسب، أما الكفر والضلال فليس بخيار ولا بديل صالح، فالكفر خسارة، إنك بالإيمان تكسب كل شيء ولا تخسر شيئاً، وإنك بالضلال والكفر تخسر كل شيء ولا تكسب شيئاً.

بالله والدين والإيمان والهداية ماذا تخسر؟ تخسر الزنا! وهل الزنا مكسب؟ تخسر الربا! وهل الربا مكسب؟ تخسر العقوق! وهل العقوق مكسب؟ تخسر الفجور والكذب والغش والمماطلة وكل رذيلة، وخسارتك للرذائل كرامة، لكن تكسب ماذا؟ تكسب العزة والصدق والوفاء والأمانة والمروءة والشهامة والعفة، وتكسب كل شيء؛ لأن الدين يبني فيك كل هذه الفضائل، فأنت بالإيمان والهداية تكسب كل شيء ولا تخسر شيئاً مهماً، ولكنك بالضلال والكفر تخسر كل شيء ولا تكسب شيئاً مهماً، ماذا تكسب؟ هؤلاء العصاة والفسقة ماذا يكسبون؟ يذهب الواحد منهم (يعربد) شكله مقلوب، (غترته) على رقبته مثل المجنون، وله أحذية لا يدخلها في رجله بل يدخل فقط رأس أصابعه ويخبط الشارع مثل المجنون، يأتي إلي بيته ويرمي بنفسه على سريره أو على فراشه مثل الثور أو الحمار فهل هذه حياة؟ هل هذه إنسانية؟ لا يعرف الله، ولا كتاب الله، ولا بيوت الله، ولا فرائض الله، بل يعرف المقاهي والزنا والنساء والغناء والفجور والدعارة هل هذه حياة كريمة يا عباد الله؟ والله هذه حياة لا تقبلها حتى الحيوانات، والله إن الحمير لتأنفها ولا ترضاها، فكيف بالإنسانية المكرمة؟ أحدهم اسمه باسكال -فيلسوف غربي- يقول: إنك بالإيمان رابح في كل حال.

وأبو العلاء المعري يقول:

زعم المنجم والطبيب كلاهما لا تبعث الأجساد قلت إليكما

إن صح قولكما فلست بخاسر أو صح قولي فالخسار عليكما

(إن صح قولكما) يقول: إن صح قولكم أنه ما هناك بعث (فلست بخاسر) ماذا خسرت بالدين؟ ولا شيء، بل كسبت كل شيء (أو صح قولي) الذي بعد (فالخسار عليكما).

يقول الله: {كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ} [المرسلات:46] ويقول: {فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ} [الزخرف:83] ويقول تبارك وتعالى: {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ} [الغاشية:25] من الذي يقول: لا والله لا إياب إلى الله؟ هل هناك أحد يستطيع أن يمتنع عن الله؟ فإذا كان هناك أحد فلا مانع له من أن يعصي الله؛ لأن الله لا يقدر عليه، لكن من الذي يستطيع أن يفلت من قبضة الله؟ لا ملك ولا أمير، ولا قوي عضلات ولا تاجر ثري بالأموال يستطيع الأمير والمأمور، والملك والمملوك، والغني والفقير، والقوي والضعيف، والكبير وال

طور بواسطة نورين ميديا © 2015