الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين.
نعمة تحبيب الإيمان وتزيينه في قلب المؤمن وتبغيض الكفر والفسق والعصيان، وكون الإنسان راشداً في كل تصرفاته، وفي كل ما يأتي ويذر هذه النعمة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى أصحابه ذكرها الله، في سورة الحجرات، فيقول ربنا عز وجل: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْأِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} [الحجرات:7].
وهذا التحبيب للإيمان والتزيين له في قلب المؤمن، والتبغيض للكفر، يقابله في الجانب الآخر في قلب الكافر والفاسق والمنافق والعياذ بالله أنه يحب الكفر والفسوق والعصيان، ويكره الإيمان ويبغض طريقه وأهله، وهذا هو الضلال بعينه.
وحتى تكون ممن حبب إليه الإيمان، وزين في قلبه، وكره إليه الكفر والفسوق والعصيان؛ لا بد من أشياء تسبق هذا الأمر، ولا بد من سلوك تسلكه، وطريق تسير فيه، وجهود تبذلها، وأسباب تتعاطاها، فإذا علم الله منك صدق الإخلاص، وقوة الطلب، وحسن المتابعة؛ قذف بعد ذلك النور في قلبك وهو معنى حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم.
فهذا لا يأتي مباشرة من الباب، فلابد أن تبذل جهداً كبيراً حتى يصل هذا الأمر إلى قلبك، ومعنى هذا الأمر جاء صريحاً وواضحاً في الحديث القدسي الذي يرويه الرسول صلى الله عليه وسلم عن ربه تعالى، والحديث في صحيح البخاري: (ما تقرب إليَّ عبدي بعمل أحب إليَّ مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه) فالله يحب منك شيئاً وهو الفريضة، وأيضاً حتى يحبك لا بد أن تأتي بالنافلة.
فهو يحب منك العمل وهو الفريضة، ولكنه لا يحبك أنت إلا إذا تقربت إليه بالنوافل: (فإذا أحببته -إذا تقرب إليَّ بالفرائض ثم تقرب إلي بالنوافل، ثم حصلت له المحبة من الله- كنت سمعه الذي يسمع به) لا إله إلا الله! أي تكريم أعظم من هذا أن تسمع بالله، وأن يكون سمعك مسدداً، فلا تسمع إلا ما يرضي الله، ويكون سمعك ربانياً لا يمكن أن يستسيغ أو يستمرئ شيئاً يغضب الله، فتكون موفقاً في السمع؛ فلا ترضى ولا ترتاح إلى سماع كلمة تغضب الله، ولكنك تطمئن وتسكن وترتاح إذا سمعت كلاماً يحبه الله؛ لأنك تسمع بالله: (كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به) أي: أن يكون موفقاً، ومسدداً، ومحاطاً بالعناية الإلهية في بصره؛ فلا يمكن أن يقع ببصره في شيء يغضب الله، هل يمكن أن يبصر بالله إلى ما يبغض الله؟ لا.
إن الذي يبصر بالله يبصر على أمر الله، وعلى ضوء إرشاد الله، ولا يمكن أن يقع بصره على شيء يغضب الله.
من ذا الذي يسمع بالشيطان، ويبصر بالشيطان؟ إنه الذي يقع بعينه ويسمع بأذنه ما يبغضه الله، ولا يحب ما يحبه الله، بل يحب عكس ما يحب الله؛ لأنه لا يسمع ولا يبصر بالله، بل يسمع ويبصر بالشيطان، فيقع بسمع الشيطان وبصره فيما يغضب الله.
(كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه) بلغت الدرجة فيما بينه وبين الله أنه بمجرد أن يسأل الله يعطيه، فهو عبد يعيش مع الله (كنت سمعه الذي يسمع به) فكل تصرفاته وحركاته، وبطشه، وسيره كلها بالله وعلى منهج الله، وبعد ذلك يحصل له من الله كرامة؛ فتزول بينه وبين الله الحجب، ولم يعد هناك إلا اتصالاً مباشراً: (ولئن سألني لأعطينه) لأعطينه: هنا مؤكدة بتوكيدين، النون المشددة الثقيلة واللام، لم يقل: أعطيه بل قال: (لأعطينه).
(وإن استعاذني لأُعيذنه) وفي بعض روايات الحديث خارج صحيح البخاري، وهي زيادة في السنن: (وما ترددت بشيء أنا فاعله ترددي في قبض روح عبدي المؤمن؛ يكره الموت وأنا أكره مساءته، ولا بد له منه) وهذا معنى الرشد، وهو أن تكون راشداً في كل تصرفاتك، ليس هناك غواية؛ لأن هناك رشد وهناك ضلال وغواية، فالراشد الذي يسير في طريق الراشدين مسترشداً بكتاب الله وبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.