فالإنسان العاصي يوم يموت ويجد عمله يأتي عمله على أشوه صورة، وعلى أخس شكل، يقول له: (أنا عملك السيئ ضيعتني ضيعك الله) وبعد ذلك يبيت في قبره إلى يوم القيامة على العذاب، ثم إذا بعث من في القبور وخرج من قبره وإذا به يرى النكبات، لا إله إلا الله!! يقول الله عز وجل: {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} [المعارج:43 - 44] {خُشَّعاً أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ * مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ} [القمر:7 - 8] يوم صعب والله.
يوم عبوس قمطرير هوله فيه تشيب مفارق الولدان
مثل لنفسك أيها المغرور يوم القيامة والسماء تمور
الله أكبر! ما أعظم الأحداث، يخرج الإنسان وهو خائف وجل ليس عنده شيء، مفلس ما عنده عمل، وبعد ذلك يأتي على الصراط فيسقط، فيأتي ليأخذ كتبه في اليمين فتضرب يمينه على كتبه فتسقط يمينه، ما معه يمين، فيأخذها بشماله -رغماً عنه- لأن الله تعالى يقول: {وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ} [الحج:21] ليس الأمر على ما يريده المرء، وبعد ذلك يأتي ليوزن عمله، فيخف ميزانه ليس عنده شيء، قال الله تعالى: {فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً} [الكهف:105] وما هو وزن تارك الصلاة وما معه من قيمة؟ ليس له وزن في الدنيا حتى يكون له وزن في الآخرة، فالذي ليس له وزن هنا ليس له وزن عند الله تبارك وتعالى.
وبعد ذلك يأتي ليشرب من الحوض فيطرد، يطرد كما يطرد الكلب! يذاد عنه، تطرده الملائكة، تقول: ما شربت من سنة النبي صلى الله عليه وسلم؛ ما شربت دينه، ما عشت عليه حتى تشرب من هديه، وتشرب من حوضه صلى الله عليه وسلم، وبعد ذلك يسحب على وجهه إلى النار، قال الله عز وجل: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً} [الإسراء:97]؛ أصم أعمى أبكم، يسحب على وجهه! وأعز شيء فيك يا رجل وجهك، لأن تسحب على ظهرك وعلى رجليك وعلى ركبتيك وعلى كل عضو أهون من أن توضع على وجهك فيسحب وجهك على الطين والحجارة! هذا أسوء منظر أهل النار، يقول الله تعالى: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْياً} [الإسراء:97]؛ لأنه كان أعمى هنا عن الدين، كانت عيونه مفتحة لكن في الحرام، لا يستريح إلا إذا جلس مع النساء؛ يتكلم، ويأخذ ويعطي، مسرور، لكن بعد هذا السرور لعنة، يقول: (يا آكل الشحمة تخرجها شيئاً آخر) لا تنشرح نفسك بالمعصية الآن، خف من ربك الآن حتى يعوضك الله في الجنة، قد تجد معاناة؛ كون الإنسان لا يجلس مع النساء ولا يستمع الأغاني، ويتمسك بدين الله، قد يكون في ذلك نوع من المعاناة والصعوبة، لكنها لا تعدل شيئاً بالنسبة لمعاناة الآخرة، وبعد ذلك إذا جلست مع النساء في الدنيا بالحرام، وتفكهت معهن، أضعت على نفسك نعيماً عظيماً في الجنة، بينما إذا غضضت بصرك عن النساء هنا، يعطيك الله في الجنة نعيماً ليس بعده نعيم، من ضمنها اثنتان وسبعون حورية، يقول فيها النبي صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده لو أشرفت إحداهن -من حوريات أهل الجنة على الأرض- لآمن من على ظهرها بالله الواحد الديان) كلهم يقولون: لا إله إلا الله! ما هذا الجمال! نصيفها -شيلتها- على رأسها خير من الدنيا وما عليها، لو أنها في المشرق وواحد في المغرب لشم ريحها؛ رائحتها وهي في المغرب تشمها وأنت في المشرق، بعض النساء رائحتها إذا شممتها تنفر منها من شدة الرائحة العفنة والعياذ بالله! فمن ابتعد عن دين الله ليس له قيمة، وليس له وزن عند الله عز وجل، كان أعمى عن دين الله عز وجل فيحشره الله أعمى أصم، قال تعالى: {عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً} [الإسراء:97] أبكم عن الدين لا يقول كلمة خير، كلامه كله غيبة ونميمة وسب وشتم واستهزاء وسخرية، فلان كذا وفلان كذا فهل أنت الذي خلقته؟ من عاب الصنعة فقد عاب الصانع، لو أن أحداً يفصل نفسه لكان فصل على أحسن مقاس، لكن ربي هو الصانع، فلان الأسود، فلان الأبيض، فلان المتين، فلان الضعيف، فلان الأعور، فيقطع لحوم المسلمين، يأكل من لحومهم، ولكن يأكل دماً يوم القيامة، والعياذ بالله! لسانه أبكم عن ذكر الله، يغني يضرب: يا ليل، يا ليالي، في كل سمرة هو الأول، ولكن في كل ندوة لا تراه، أبكم عن الحق، والدين، والقرآن، لسانه يشتغل في الباطل، قال الله عز وجل: {عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً} [الإسراء:97] أصم عن دين الله، لكن منفتح على كل شر: {مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ} [الإسراء:97] أي: كلما انطفأت وتنازلت: {زِدْنَاهُمْ سَعِيراً} [الإسراء:97].
نعوذ بالله من ذلك! ويصلون في النار، والنار -أجارنا الله وإياكم من النار- حرها شديد، وقعرها بعيد، وعذابها أكيد، وطعام أهلها الزقوم، وشرابها المهل والقيح والدم والصديد، أمانيهم فيها الهلاك، وما لهم منها فكاك، قد شدت أقدامهم إلى النواصي، واسودت وجوههم من ظلمات المعاصي ينادون من شعابها بكياً من ترادف عذابها: يا مالك! قد أثقلنا الحديد، يا مالك! قد نضجت منا الجلود، يا مالك! قد تقطعت منا الكبود، يا مالك! العدم والله خير من هذا الوجود، يا مالك! أخرجنا منها فإنا لا نعود.
يقولون: أطلقنا نرجع نعمل عملاً صالحاً من أجل أن نتوب، قال الله عز وجل: {اخْسَئوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:108] لا خروج أبداً من النار، لماذا؟ قال: {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً} [المؤمنون:110] كثير من العصاة يضحكون على المتدينين، فلان مطوع، ماذا تكون أنت يا أبا السيجارة، اضحك على نفسك، ابك على نفسك، يا ضال، يا منحرف، يا عبد الشيطان! تضحك على عباد الله وأهل القرآن، والدعوة، والصلاة، والدين، والعفة، والشهامة، والمروءة، والطهارة، وأنت على الزنا والغناء وعلى قلة الدين، لا إله إلا الله! {فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ * إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ} [المؤمنون:110 - 111] نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من الفائزين.
في تلك اللحظات وهو في النار، يتدبرون ويتفكرون في هذا العذاب العظيم الذي ما بعده عذاب، ويعيدون شريط الذكرى، لماذا نحن هنا؟ من الذي ورطنا هنا؟ فيجلس بعضهم مع بعض، ويقولون: الشيطان الشيطان.
إنك لو جئت في درس على مجموعة من السجناء في السجن، وقلت لكل واحد: تعال، ما الذي أتى بك إلى هنا؟ من الذي ورطك في القتل؟ ماذا سوف يقول؟ يقول: الشيطان، وأنت ما الذي ورطك في الزنا؟ قال: الشيطان، وأنت ما الذي ورطك في السرقة؟ قال: الشيطان، كل واحد يقول: الشيطان ورطهم وتركهم في السجن.
كثير من الناس ورطهم الشيطان وكأنهم ليسوا مسئولين، لكن إن لم يتوبوا فسوف يسجنون في سجن ما منه خروج، وهو سجن جهنم، وإذا جئت في يوم من الأيام تقول: ما الذي أتى بك في النار؟ قال: الشيطان، الشيطان أتى بي هنا، {أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي} [الفرقان:29] يقول الله عز وجل: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ} [الفرقان:27] يأكل من هنا إلى هنا، إنك إذا اشتريت سلعة بخمسة في السوق ووجدتها في دكان آخر بريال، ماذا يصير في قلبك؟ الندم، أم لا؟ وهي بريال، لكن أخذتها بخمسة من دكان، تقول: الله! كيف هذا الكلام، بخمسة وهي بريال، كنت سآخذ خمس حبات، لماذا آخذها؟ أين عقلي؟ أين تفكيري؟ لماذا لا أبحث في السوق؟ وتبقى في قلبك نقطة وحرقة لا تنساها.
فإذا جئت يوم القيامة وقد اشترى أهل الإيمان الجنة وأنت شريت النار، قال الله عز وجل: {ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} [التغابن:9] غبن يقطع القلوب، وقد ورد في الحديث: (إن أهل النار يؤخذون إلى أن يؤتى بهم إلى الجنة، فتفتح الجنة على مصارعها، فيقال لهم: هذه الجنة، قالوا: نعم، قالوا: هذه قد أعدها الله لكم لو أنكم أطعتم الله ورسوله) فيرون شيئاً لا يتصوره العقل، (ولكن لما عصيتم الله ورسوله بدلكم الله بدار ثانية فيؤخذون فيرجعون بحسرة وندامة ما رجع بها الأولون والآخرون) قال تعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولاً} [الفرقان:27 - 29].
ويعيدون شريط الذاكرة إلى أن سبب نكبتهم في هذه النار هو الشيطان، فيلعنون الشيطان، ويتبرءون من الشيطان، لكن لا ينفع! أحد الناس جئته في السجن وأنا ألقي درساً عليهم وبينت لهم في جريمة القتل، ولما خرجنا أمسكني رجل مسن، قال: يا شيخ! أين هذا الكلام قبل أن آتي إلى هنا؟ قلت: ما قضيتك؟ قال: القتل، أنا أنتظر السيف في الغداة والعشي، يقول: والله لو أني سمعت هذا الكلام ما دخلت السجن، يضربني أو يذبحني، لكن لا أدري! الشيطان ورطني في مسائله، لكن لا أدري كيف أرقعها الآن؟ أحييه من الموت؟ لا.
ليست إلا موت رقبتي.
وما يدري ما عليه عند الله يوم القيامة، من الذي ورطه في هذا؟ الشيطان، فالشيطان يورط كثيراً من الناس في مثل هذه الأعمال، ثم يو