علامة المحبة الأولى: إظهار الذلة للمؤمنين

فأما علامات حب الله عز وجل للعبد فهي خمسة: قال تعالى: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة:54] ما صفاتهم يا رب؟! قال: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [المائدة:54] متواضعين، مخبتين، والإخبات قال الله: {وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ * الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [الحج:34 - 35].

الإخبات: صفة من صفات أهل الإيمان، وقد ذكرها ابن القيم في مدارج السالكين على أنها منزلة من منازل السير إلى الله في الدار الآخرة، والإخبات مأخوذ من الخبت، والخبت: هي الأرض المنبسطة التي خيرها كثير وليس منها شر، والخبت هي المنطقة الموجودة في تهامة، أخذ الإخبات من الخبت؛ لأن الخبت أرض سهلة منبسطة، وبعد ذلك منخفضة متواضعة، وخيرها إذا جاءها مطر، يأتي الواحد منا فيزرع فيغرس المسافة الطويلة ومعه الحبوب في كفه والعصا في يده، فيغرس العصا في الأرض ويضع الحبة فقط -حبة مكان العصا- وبعد ذلك يخطو خطوتين ويضع غرسة وحبة، وبعد أيام إذا بالحبة هذه قد كبرت، لا يسقيها ولا يحميها، ولا يحرسها، ولا يتخولها، ولا يتعهدها، ولا شيء، إنما يضع حبة، فتنبت منها الخيرات.

فالمؤمن أولاً سهل، وبعد ذلك منبسط فليس بمعقد، وبعد ذلك متواضع ليس بمتكبر ولا متعالٍ، وبعد ذلك خيره كثير، ضع له شيئاً فترى شيئاً عظيماً، وبعد ذلك لا يتعبك في شيء، لكن المنافق والعياذ بالله عكس هذه كلها، صلب مستعلٍ متكبر، خيره قليل وشره كثير والعياذ بالله وبعد ذلك معقد، وملتوٍ، ومنافق، حين تبحث عنه لا تراه؛ لأن النفاق أُخذ من النفق، والنفق هو المكان المتلوي الذي لا ترى له اتجاهاً معيناً.

فالمؤمن متواضع ذليل، قال الله عز وجل: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [المائدة:54] أي: لا يتكبر على إخوانه المؤمنين، ويتواضع لهم، ويرحم صغيرهم، ويوقر كبيرهم، ويزور مريضهم، ويسلم على مارهم، ويتبع جنازة أخيه المسلم، يشمت أخاه المسلم، إذا دعي إلى وليمة ولم يكن له عذر جاء وأجاب، وإذا كان له عذر اعتذر من أول الأمر، وقال: لا آتي، لا كما يصنع أكثر الناس اليوم، يدعى فيقول: حسناً وهو ينوي ألا يأتي، حتى قال لي شخص من الناس: والله إني وزعت مائتي (كرت) ولم يأت إلا عشرين رجلاً، وذبحت ثمانية خراف، واعتبرت أن لكل خمسة وعشرين رجلاً خروفاً، وقلت: لكل مائة أربعة، فذبحت ثمانية خراف وجاءني عشرون رجلاً، وجلس كل واحد على خروف، يرون اللحم ولا يريدونه، لكن لو أن الذين أعطيتهم الكروت كلهم اعتذروا لي عن الحضور وقالوا: والله مشغول، أو أنا معزوم، أو عندي موعد أو ارتباط، لذبحت بدل الثمانية أو العشرة اثنين.

المؤمن ذليل {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [المائدة:54] ويضاد هذه الصفة العزة على أهل الإيمان، من الناس من هو متكبر متعالٍ: إما بماله، أو بسلطته، أو بوظيفته، أو بنسبه، أو بأولاده، أو بما يملك، يتعالى ويتكبر ويتعاظم، فهذا ليس من صفات أهل الإيمان.

فإذا أردت أن تعرف أن الله يحبك، فمن علامة محبة الله لك أن تكون ذليلاً على المؤمنين، وإذا كنت عزيزاً مستكبراً متعالياً متعاظماً، تنظر إلى الناس بنظرة الاحتقار، والازدراء، والتعالي، وترى أنهم تحتك وأنك أحسن منهم، وأنهم فقراء وأنت غني، وأن نسبهم وضيع وأنت رفيع، وأنهم سوُد وأنت أبيض، وأنهم ضعاف وأنت قوي، أي: تعتز وتفتخر بنعم الله التي ساقها الله لك، فاعلم أن الله يبغضك؛ لأنك تفتخر بشيء ليس منك، فالعافية والرزق والأولاد والجاه والغنى وكل شيء من الله، لماذا تتفاخر وتتمدح بحق غيرك؟!! يقول الله: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} [النحل:53].

فاشكر الله -يا أخي- وتواضع؛ لأن المؤمن متواضع (من تواضع لله رفعه، ومن تعالى على الله وضعه)، اشكر الله وكن ذليلاً على إخوانك المؤمنين، وابتسم في وجوههم، وزرهم إذا مرضوا، وحاول أن تحسن إليهم بكل وسيلة ليسعك من الناس الابتسامة، يقول عليه الصلاة والسلام: (إنكم لن تسعوا الناس بأرزاقكم) أي: لا تستطيع أن تستحوذ على الناس كلهم بالمال، ولو كان ما كان، فلا تستطيع.

من يرزق العباد إلا رب العباد (ولكن تسعوهم بأخلاقكم)، وقال عليه الصلاة والسلام: (تبسمك في وجه أخيك صدقة) وقال: (لا تحقرن من المعروف شيئاً، ولو أن تلقى أخاك بوجه طليق) فأنت في الطريق تسلم فتقول: السلام عليكم، الله يصبحك بالخير، كيف حالك يا أخي؟! ولكن من الناس اليوم من إذا رأى أخاه المؤمن من هناك غير الطريق، حتى في العيد لا يتزاورون، العيد الذي سماه الله عيداً؛ لأنه يعود على الناس ليتعاودوا ولينسوا الماضي، فتقول لجارك: أنت جاري وأنا جارك، صار بيني وبينك مخاصمة، أو صار بيني وبينك سوء تفاهم من أجل الأولاد، ومن أجل -مثلاً- الحدود، ومن أجل الماء، ومن أجل أي غرض من أغراض الدنيا، انتهت المشكلة لا ينبغي ولا يجوز شرعاً أن ألقاك بعد ثلاث ليالٍ، ولا أقول: السلام عليكم، وأنت مفروض عليك وواجب بمجرد أن أقول: السلام عليكم، أن تقول: وعليك السلام، الله يمسيك بالخير؛ لأن بعض الناس إذا سمع هذا الحديث وقال: والله لا يجوز أن أهجر أخي المسلم، لابد أن ألقاه وأسلم عليه، فيلقاه، فيقول: السلام عليكم، فإذا بالآخر يتهجم ويأبى أن يرد السلام، فيأتي الشيطان فيقول: أرأيت! تلقي عليه السلام ولا يرد عليك السلام، إذن اقطعها معه.

لا يجوز يا أخي! المفروض أن تغتنم هذه المبادرة الطيبة من أخيك المسلم الذي غلب نفسه وغلب الشيطان وجاء إليك وقال: السلام عليكم، فمقابل أن قال: السلام عليكم، قل: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، ورد عليه، وأمسك رأسه وقبله، وقل: جزاك الله عني كل خير، لقد أعنتني على نفسي لو أنك ما سلمت علي كان الشيطان يريد أن يكبرها في نفسي، الله يسامحك باطناًَ وظاهراً، والدنيا كلها فانية.

قيل لي: إن في قرية من القرى أرحام بينهم صهر ونسب لا يدخلون بيوت بعضهم، وجاء العيد وبعضهم ما دخل على الثاني، لماذا؟ كبرت نفوسهم، ما تواضعوا، وما ذلوا؛ لأنهم لا يحبون الله، والله لو كانوا يحبون الله ويحبون رضا الله عز وجل؛ لنسوا أنفسهم ولأنكروا ذواتهم ولتواضعوا وطلبوا التسامح؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه المسلم فوق ثلاث ليال، يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام) تريد أن تكون من خيرهم أو من شرهم؟ صحيح إذا أردت أن تكون من خيرهم فإن لها ضريبة، وضريبتها أن تنكر نفسك، وتغلب هواك، وألا تستسلم لشيطانك، وتخضع نفسك: السلام عليكم ولو بالغصب أو بالقوة، لكن الله عز وجل يجعلك خيرهما (وخيرهما الذي يبدأ بالسلام) أما إذا التقيا وأعرض هذا وأعرض هذا وتباغضوا في غير ذات الله عز وجل، فإن الله عز وجل لا يرفع لهما إلى السماء عملاً، كما جاء في الحديث: (تعرض الأعمال على الله كل يوم إثنين ويوم خميس، إلا عمل رجلين متشاحين في الله، يقول الله: دعوهما حتى يصطلحا) رد عليهم أعمالهم مرفوضة حتى يتصالحوا، فإذا تصالحوا فلهم العمل، أما إذا لم يتصالحوا فليس لهم عمل، إذن ما قيمتك في الحياة؟ وما تعمل هنا؟ هل خلقك الله من أجل أن تضارب الناس، وتعمل مع هذا مشكلة ومع هذا مشكلة؟ لا يا أخي!

لما عفوت ولم أحقد على أحد أرحت نفسي من هم العداوات

إني أحيي عدوي عند رؤيته لأدفع الشر عني بالتحيات

وأملأ الوجه بشراً حين مقدمه كأنما قد حشا قلبي مودات

كم من ابتسامة لقي الرجل بها أخاه المسلم دفعت هذه الابتسامة وهذا السلام شروراً عظيمة جداً كان يمكن أن تتولد ويصير فيها قتل، كثير من الناس الآن في السجون بسبب القتل؛ لأنهم طوروا القضايا وكانت (حبة) وجعلوها (قبة)، كانت كلمة فضخمها المنافقون وأعداء الله عز وجل الذي يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، يأتون إلى هذا فيقولون: ماذا قال فيك فلان أمس؟ ماذا فعلت به؟ والله قال فيك وفيك، وبعد ذلك يذهب هذا إلى ذاك، وحرش بين الناس، وهذا هو النمام الذي قال الرسول صلى الله عليه وسلم فيه: (لا يدخل الجنة نمام) والنمام هو: الذي ينقل الكلام بين الناس على جهة الإفساد، لكن الذي ينقل الكلام بين الناس على جهة الإصلاح ليس بنمام ولو حلف بالله.

لو سمعت مثلاً أن زيداً وعمرواً من الناس في القرية حصل بينهما اليوم سوء تفاهم، من أجل حدود، أو حطب، أو ماء، أو أولاد، أو أي غرض، لما سمعت قلت: والله لا يمكن أن أترك هؤلاء متباغضين، ذهبت إلى واحد منهم الذي بدأ بالشر، فتقول: يا أخي! ما الذي حصل بينكم؟ قال: والله حصل، وحصل وعمل، تقول يا أخي! أنا جئتك من عنده الآن، وهو متأسف جداً، ويريد أن يقابلك الآن، ولو الخطأ منك لكن يقول: لا.

لا يمكن أبداً أن يغضب عليّ، ولو أقسمت له بالله لو قال: بالله، أو والله، فإن قسمك هذا يعتبر طاعة لله، ولا تأثم به، بل تكسب به أجراً من الله عز وجل؛ لأنه إصلاح، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (ليس الكذاب الذي يصلح بين رجلين فيقول خيراً أو ينمي خيراً) ليس بكذاب هذا، ولا فاجر بل هو مصلح لله عز وجل، ثم تذهب إلى آخر فتقول: ماذا حصل؟ وتعطيه هذا الكلام، تجدهم في الصباح يلتقون، فيحاول كل منهما أن يبدأ بالسلام.

لكن أن تشحن هذا مثل الكهرباء، وتشحن هذا، وتأتي في اليوم التالي وإذا بهما يقتتلان، وتصير فتنة، لماذا؟ لأن النمام يفسد في ساعة ما لا يفسده الساحر في سنة، فأول صفة من علامات محبة الله لك أن تكون ذليلاً وأنت أعرف بنفسك، إن كنت ذليلاً على المؤمنين ومتواضعاً للمؤمنين، تحب المؤمنين.

الر

طور بواسطة نورين ميديا © 2015