السبب الأول: الغلو والتشدد في دين الله عز وجل؛ لأن الغلو يؤدي إلى تجاوز الحد وكل ما تجاوز حده انقلب إلى ضده، وتصبح ردود فعل، مثل البندول: البندول يتحرك حركة معقولة لكنه عندما ترفع إلى الأعلى ويشد ثم يترك ثم تضطرب حركته، وكذلك من يغلو في دين الله عز وجل ويتشدد ويتنطع ويحدث في دين الله ما ليس فيه، حتى ولو كان بنية صالحة، فالنبي صلى الله عليه وسلم حذر من الخوارج، وقال في الصحيحين لرجل اسمه حرقوص دخل على النبي صلى الله عليه وسلم وقال: إن هذه قسمة ما أريد بها وجه الله ثم ولى، فقال صلى الله عليه وسلم: (يخرج من ضئضئ هذا أقوام تحقرون صلاتكم إلى صلاتهم، وعبادتكم إلى عبادتهم، وأخبر أنهم يخرجون من الدين -ينسلخون من الإسلام- كما يخرج السهم من الرمية).
فالعبرة ليست بكثرة العمل، وإنما العبرة بكيفية العمل، فكم من عامل يعمل عملاً ليس فيه أمر الله ولا أمر رسول الله ولا ينال عليه أجراً، فلابد من التوسط والاعتدال وهذا مؤشر دقيق؛ لأنه قد يساء فهمه؛ نظراً لبعد الأمة عن تعاليم دينها، وللفارق الزمني البعيد بينها وبين الكتاب والسنة حصلت عندها نظرة عكسية، بحيث نظرت إلى التمسك بالدين أنه من الغلو.
يعني: بعض الناس الآن يطلقون التطرف والغلو على من يطبق الشرع الصحيح، إذا رفع ثوبه عن الأرض بحيث طبق السنة، قالوا: فلان متشدد لماذا؟ قالوا: ثوبه إلى نصف ساقه لكن لو سحب ثوبه كما تسحب المرأة عباءتها لقالوا: فلان ما شاء الله معتدل، وهذا عين خطأ.
فالاعتدال: هو أن تأتي بالدين كما شرع الله وشرع رسوله صلى الله عليه وسلم، إذا رأينا شاباً يرفع ثوبه إلى نصف ساقه عملاً بالسنة قلنا هذا شاب معتدل، لكن إذا رأيناه يرفع إلى ركبته ماذا نسمي هذا؟ غلو، أليس كذلك؟ هذا هو منطق الشرع.
رأينا إنساناً يكبر ويضع يده اليمنى على اليسرى على صدره في الصلاة، نقول هذا شاب معتدل، لكن إذا رأيناه يكبر ويضع يده اليمنى على اليسرى على رقبته، نقول: هذا غلو؛ لأن رواية وائل بن حجر في زيادة ابن خزيمة على صدره، كان يضع يده اليمنى على اليسرى على صدره، لكن بعض الناس قد يغالي ويضعها على رقبته ويخنق نفسه وهذا من الغلو.
وإذا سمعنا إنساناً يقال له: أوصل الكهرباء إلى بيتك فيقول: لا.
الكهرباء هذه تشغل الأغاني عند الناس فأنا أقاطع الكهرباء، وهذا غلو، أي نعم.
وآخر عنده كهرباء لكنه لم يشتر مكيفاً لأولاده ولا مروحة لماذا؟ يقول: أريد أن أشعر بالتعب في سبيل الله، نقول: هذا غلو وليس من دين الله تبارك وتعالى.
آخر معه إمكانية أن يشتري سيارة ولكنه لم يشتر، نقول له لماذا؟ يقول: أريد أن أتعب.
لا.
ليس هذا من دين الله فهذا هو الغلو، أما الاعتدال والوسطية، فهي الدين؛ لأن الله تعالى يقول: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} [البقرة:143] أمة محمد هي أمة الوسطية والاعتدال، وعدم الغلو وعدم المجافاة وعدم التراخي والضعف وإنما على الكتاب والسنة، تؤدي صلاتك كما أداها النبي صلى الله عليه وسلم، تصوم كما صام النبي صلى الله عليه وسلم، تؤدي زكاتك كما أداها النبي صلى الله عليه وسلم، لكن لا تزيد عما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، ففي الصحيحين: (أن ثلاثة نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءوا إلى أزواج رسول الله، وسألوا عن عبادته فلما أخبروا بها كأنهم تقالوها، فقام أحدهم وقال: أما أنا فلا أنام الليل، وقال الثاني: وأنا لا أفطر الدهر، وقال الثالث: وأنا لا أتزوج النساء -أتبتل- فلما سمع النبي صلى الله عليه وسلم بخبرهم نادى بالصلاة جامعة وقال: ما بال أقوام يقولون ويقولون ويقولون، أما والله إني لأعلمكم بالله وأخشاكم له وأتقاكم له، ولكني أصوم وأفطر، وأقوم وأنام، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني).
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، يرسم لأمته المنهج الوسطي، هذا غلا وقال: ما أفطر.
لماذا؟ لأن صيام الدهر منهي عنه، وذاك قال: أقوم الليل، فلا ينبغي لك أن تقوم الليل كله، قم ثلثاً ونم ثلثين من الليل، لكن أن تقوم الليل كله دائماً فهذا لا تطيقه أنت ولا يطيقه غيرك، وهذا غلو في دين الله عز وجل، وقد جاءت الأدلة بالنهي عنه، يقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه الإمام أحمد في المسند: (إياكم والغلو فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين) وفي صحيح مسلم يقول عليه الصلاة والسلام: (هلك المتنطعون) يعني: المتشددون على أنفسهم بغير دليل شرعي، تقول له: أأكل؟ قال: لا.
لماذا؟ قال: هذا فيه ترفه وفيه تنعم.
هذا تنطع، كُل مما حل الله لك: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة:172] {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً} [المؤمنون:51].
إن الطيبات هذه أحلها الله تبارك وتعالى فكل منها واستعن بها على طاعة الله واعمر بيتك بطاعة الله، اركب جديداًَ والبس نظيفاً، وتزوج جميلاً، وابن جميلاً، لكن: اركب سيارة جديدة واستخدمها في طاعة الله، تزوج زوجة جميلة وربها على دين الله، ابن عمارة طويلة عريضة واستخدمها في طاعة الله، واعمرها بذكر الله، من قال لك أن هذا حرام، إن هذا هو النظر الذي يؤدي بك في النهاية إلى الانتكاس والعياذ بالله.
أيضاً يقول عليه الصلاة والسلام والحديث في سنن أبي داود (لا تشددوا على أنفسكم فيشدد الله عليكم، وإن قوماً شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم، فتلك بقاياهم في الصوامع) هؤلاء الرهبان شددوا وابتدعوا، قال تعالى: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَاكَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} [الحديد:27] ما كتبها الله عليهم ولكنهم هم الذين ابتدعوها وترهبوا، ويظنون أنها دين وليست بدين، وفي صحيح البخاري يقول عليه الصلاة والسلام: (إن هذا الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه) وكان يقول عليه الصلاة والسلام: (بشروا ولا تنفروا ويسروا ولا تعسروا) (وما خيِّر صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً)، بعض الشباب الآن يختار الأعسر يقول: من باب الحيطة، وهذا لا ينبغي، إذا خيرت بين أمرين فخذ الأيسر، لماذا؟ لأن هذا هدي النبي صلى الله عليه وسلم.
وأيضاً في الصحيحين يقول عليه الصلاة والسلام: (اكتفوا من الأعمال بما تطيقون فإن الله لا يمل حتى تملوا وإن أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل) يعني: ركعتين في جوف الليل تصليهما أفضل من أن تصلي في الليلة عشر ركعات ثم تنام شهراً لا تصلي، صل ركعتين فقط ولكنهما تؤثران في قلبك أعظم من أثر مائة ركعة في ليلة.
الآن انظر إلى الماء: إذا صببت الماء قطرة قطرة على الصخرة بعد سنة تجد أن هذه القطرة التي نزلت على الصخرة قد حفرت في الصخرة أليس كذلك؟ لكن لو أخذت الماء الذي نزل ودفعته دفعة واحدة على صخر هل يتأثر؟ لا يتأثر، لكن الاستمرارية تتأثر فكونك تستمر في عمل صالح تنفق في اليوم ريالاً أفضل من أن تنفق في اليوم مائة ثم تقعد سنة لا تنفق ولا ريالاً، كلما رأيت فقيراً وقف عند سيارتك أعطه ريالاً، اجعل في شنطتك بعض الريالات، أفضل من أن تفتح الشنطة وتجد فقيراً واحداً فتعطيه عشرة ثم يلقاك عشرة فقراء فلا تعطهم شيئاً، فأيهما أفضل أن تنال دعوة من فقير واحد أو من عشرة فقراء؟ فأنت عندما تعطي عشرة فقراء تنال من كل فقير دعوة حتى يخلف الله عليك، قال تعالى: {وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ:39] فهذا أول سبب من أسباب الانتكاس وهو: الغلو والتشدد أكثر مما شرع الله، وهذا القيد من عندي؛ لأن التمسك بما شرع الله لا يسمى غلواً ولا تشدداً، التمسك به هو الاعتدال وهو الوسطية وهو الحق، لكن الذي نخدر منه هو الزيادة على دين الله، حتى لا يجد المتفلتون طريقاً من هذا الكلام إذا رأوا شاباً متمسكاً قالوا: هذا متشدد لا.
ليس متشدداً، الشاب المتمسك بالسنة ليس متشدداً بل هو معتدل؛ لأنه على الوسطية التي شرعها الله في كتابه، وسنها رسوله صلى الله عليه وسلم في هديه وسنته.