كل ما وعظك الله به، وكل ما أمرك الله به، وكل ما نهاك الله عنه، احرص على أن تطبقه لماذا؟ حتى تثبت، لماذا يكون عدم تنفيذ الأوامر سبيلاً إلى التراخي والرجوع والضعف والانتكاس ثم الردة؟ لأنك تسير إلى الله وسيرك حثيث، يقول الله عز وجل: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} [الذاريات:50] ويقول عز وجل: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [آل عمران:133] ويقول: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [الحديد:21] وسرعتك ومسابقتك وفرارك تقتضي منك أن تكون جاداً، لكن ما رأيكم برجل مسرع ويتلفت يريد أن يرجع، أو يقف؟ هل يستمر إن وقف أمام معصية من المعاصي؟ أو أمام نظرة إلى امرأة، أو أمام أغنية يستمعها، أو أمام شهوة محرمة يقع فيها، أو أمام صلاة ينام عنها، أو أمام واجب شرعي يتركه؟ هذه معوقات تعيقك عن السير في سبيل الله، وبالتالي إذا وقفت يصعب عليك السير مرة أخرى، لكن ما دمت جاداً وتمشي بقوة فإنه يصعب على الشيطان إرجاعك.
يقول ابن القيم رحمه الله في مدارج السالكين: لابد أن تسير إلى الله ولا تلتفت؛ لأن الالتفات يوهن القوى، يقول: انظر إلى الضبي -الضبي من الصيد الذي أوتي قدرة على السرعة في المشي، تجد بطنه لاصقة بظهره وأقدامه خفيفة، يعني: إذا مشى على الرمال يقفز قفزات كأنه ريح- يُرسل عليه الكلب المعلم، وقوته ليست كقوة الضبي وسرعته ليست كسرعة الضبي، لكن الكلب يدركه ويأتي به لماذا؟ قالوا: لأن الضبي يجري ويتلفت -عينه في الكلب- والكلب يجري ولا يلتفت، الكلب عينه أمامه يريد أن يأتي بالضبي، ولو أن الضبي استمر ولم يلتفت لما وصل إليه، لكن كلما تلفت رأى الكلب فيظن أنه قريب فيضعف، فينظر المرة الثانية فيقول: قد قرب وسوف يعضني فيضعف فيمسكه الكلب.
كذلك أنت في طريقك إلى الله وفي فرارك وراءك كلب اسمه: إبليس يريد أن يمسك بك، فلا تلتفت؛ لأن التفاتتك تعني وقوفك عند المعاصي، تسمع أغنية كنت قد سمعتها في الماضي فتقول: أسمعها قليلاً، هذه التفاتة تنظر إلى امرأة، غض بصرك واستغفر الله لكن إذا طولتها قليلاً أو كررتها فهذه التفاتة يصيدك بها الشيطان.
فعليك أولاً أن تنفذ كل ما أمر الله عز وجل به، وتبتعد عن كل ما نهاك الله عنه، حتى تثبت، ويقول الله في هذا المعنى في القرآن الكريم: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً} [النساء:66] أشد تثبيتاً، أعظم مثبت لك أن تفعل ما أمرك الله، وتنتهي عما نهاك الله، (ما يوعظون به) ما جاء في كتاب الله، وأنا أعرف كثيراً من الشباب أوصلته انتكاسته إلى الردة، وإلى الكفر بالله، والخروج من الإسلام، وسببها: أنه وقف عند الأغاني بإيحاء من شيطان من شياطين الإنس، ولهذا العنوان قصة: شاب من شباب الصحوة التزم بالدين وتمسك به تمسكاً قوياً، بل غالى فيه وشدد على نفسه، وكنت أنصحه بالاعتدال والوسطية، حتى أنه كفر أهله في البيت وكفر أباه وقام بأعمال غير سليمة، وكنت أحاول أن أسدده، ثم لما زاد عليه الأمر خرج من بيت أهله وذهب إلى الجهاد الأفغاني، ومكث مع المجاهدين قرابة شهرين، ورجع وكان في استمراريته في العمل حماس ودعوة وانقطاع وأعباء، ليله ونهاره كله للدعوة، وبعد ذلك حصل له الموقف أن ركب مع زميل وكان هذا الزميل يستمع الأغاني، فمد يده إلى المسجل وأقفل، فقال له زميله: لماذا أقفلت؟ قال: حرام، قال: من قال أنه حرام؟ -زميله شيطان رجيم، شيطان ناطق- ثم قال له: العلماء والمشايخ وكل الناس والكتاب والسنة يقولون: لا.
ليست حراماً الدين في القلوب، والأغاني هي كلمات تدخل من هنا وتخرج من هنا، تسمعها لتروح عن نفسك ومن الذي قال لك أنها حرام؟ قال: الشيخ/ سعيد بن مسفر، قال: ما عرفت إلا هذا الإنسان المعقد؟ لا تأخذ الدين منه، فأصابت الشاب المسكين هزة؛ لأن الرجل يحب الأغاني ويود أن يجد عليها طريقاً ويجد من يسول له ويرخص له فيها فأخذه ذلك الشيطان وذهب به إلى البيت، وقام أخرج له كتباً من الكتب التي تبيح السماع، وهناك بعض الأئمة مثل ابن حزم الظاهري يرى أن الغناء ليس الغناء بالآلة.
والغناء بالعود والآلة والطنبور والكمان، جميع هذه الوسائل محرمة عند أهل العلم كلهم، لكن بعض أهل العلم يرى أن الغناء بالكلام الذي نسميه أناشيد إسلامية، يقول: إنها حلال، فهذا الذي يعنيه ابن حزم، وقد حملها على أنها الأغاني كلها، ورجع الشاب إلى البيت ليسمع الأغاني سماعاً صحيحاً بقوة وبإعجاب وبتركيز؛ لأنه قد منع نفسه منها ودخل الشيطان إلى قلبه من هذا الباب، وبرد في عبادته، ثم ترك الصلاة في المسجد، وصار يصلي في البيت، وبعد فترة ترك الصلاة بالكلية وارتد عن دين الله، وجاءني خبر أنه ترك الصلاة وأصبح له فكر آخر عن الحياة كلها.
فذهبت إليه في بيته لزيارته وكنت حينما أزوره في بيته يفرح كثيراً بي، وينزل مثل الخيل ويستقبلني ويذهب معي، لكن ذهبت يوماً من الأيام وسيارته عند الباب فقلت: فلان موجود؟ قالوا: من نقول له، قلت: قولوا له فلان، فقالوا: ليس موجوداً فعلمت أنه لا يريدني، وذهبت وعدت مرة أخرى فقالوا: ليس موجوداً.
ثم حاصرته إلى أن أمسكته، ويوم أمسكته وهو واقف بالسيارة أوقفت سيارتي ونزل من السيارة وكان يخجل مني كثيراً، فعانقته عناقاً حاراً وقلت له: ماذا بك هل عملت بك شيئاً؟ لماذا لا تريد أن تقابلني؟ قال: لا.
وإنما أنا مقصر وأنا خجلان منك، قلت: لا.
كلنا مقصرون تعال اركب معي، فركب وذهب معي في السيارة وأخذته إلى البيت وجلست معه.
قلت له: بلغني أنك تركت الطريق وتنكبته ورجعت عن الإسلام؟ قال: نعم.
قلت: الآن أريد أن أناقشك مناقشة جريئة وجادة ولا تجامل، المجاملة لا تصلح في هذا الموضوع، أنت تركت هذا الطريق فإما أن تقنعني أن هذا الطريق غير صحيح وأرجع معك، أو أقنعك أنه طريق صحيح وترجع معي، قال: تفضل، قلت له: أسألك بالله هل تركت طريق الالتزام والدين، ورجعت إلى طريق الانسلاخ والكفر؛ لأن طريق الإسلام والالتزام غير صحيح، والطريق الذي أنت فيه الآن صحيح؟ أريد أن ترد من قلبك، قال: من قلبي؟ قلت: نعم.
قال: والله إني أعلم من قرارة نفسي أن طريق الدين والالتزام هو الصحيح، وطريق الكفر الذي أنا فيه هو الخطأ.
قلت له: سؤال آخر: هل في الدنيا رجل عاقل يترك الطريق الصحيح ويرجع إلى الطريق الخطأ؟ قال: لا.
قلت: إذاً أنت غير عاقل، قال: لا.
أنا عاقل لكن أخبرك لماذا تركت الطريق، قلت: لماذا؟ قال: لأن الطريق الصحيح صعب، والطريق الخاطئ بسيط وسهل، قلت: الآن عرفنا النقطة، أمسكنا رأس الحبل الآن.
قلت له: أنا معك أن طريق الالتزام وطريق الدين صعب، لكن هل تركت الصعب إلى السهل أم إلى الأصعب، قال: إلى السهل، قلت: لا.
أنت مخطئ، تركت الصعب إلى الكارثة وإلى المصيبة والدمار، وإلى الهلاك في الدنيا والآخرة، قال: كيف؟ قلت: أليس غض نظرك عن الحرام صعب؟ قال: نعم.
وهذا الذي أتعبني -يقول: بصره أتعبه، كل ساعة وهو يغض بصره مما أدى إلى أن تعب- قلت: لم تركت غض البصر وأطلقت لبصرك العنان للنظر إلى وجوه النساء وقعت في الأصعب؟ قال: ما هو الأصعب؟ قلت: أن يملأ الله عينيك من جمر جهنم، فانتبه الرجل.
قلت: ما هو الأسهل أن تغض عينك وتصبر قليلاً أو يملأها الله جمراً من نار جهنم؟ قال: جمر جهنم أصعب، قلت: الأغنية التي تسمعها الآن، صون سمعك عنها صعب أليس كذلك؟ قال: نعم.
قلت: وإذا سمعت الأغاني وقعت في الأصعب؟ قال: لماذا؟ قلت: من استمع إلى مغنٍ أو مغنية صب الله في أذنيه يوم القيامة الرصاص المذاب، هل الأسهل لك أن تصون سمعك عن الأغنية وتعاني معاناة بسيطة، أم أن تغني وتسمع الغناء ويصب الله عليك الرصاص المذاب؟ قال: لا.
والله هذه أصعب.
قلت: قيامك لصلاة الفجر صعب أليس كذلك؟ قال: نعم.
قلت: القيام أصعب أم أن يرضخ رأسك بالصخر في النار؟ قال: هذه أصعب، قلت: إذًا أنت تركت الصعب إلى ما هو أصعب، أنا معك في أن طريق الاستقامة والدين صعب؛ لأن الصعوبة هذه توصلك إلى الجنة، وضربت له مثالاً قلت: هل الدراسة سهلة أم صعبة؟ قال: صعبة، قلت: نعم.
صعبة من كل صورها، صعبة من النهوض مبكراً، أنت خلال الفترة الصيفية تنام إلى الظهر، لكن في الدراسة من الساعة السادسة والنصف وأنت تجمع كتبك وتركب وتذهب، وقد تتأخر فتجد المدير أو المراقب على الباب والعصا بيده، يصيبك واحدة منها على ظهرك، فتهرب منه، وتدخل على المدرس فيقال لك: أين الواجب؟ أين الدرس؟ حصة وامتحانات وبلاء ومشاكل، فيها صعوبة، قال: نعم.
فيها صعوبة، قلت: لماذا يصبر الناس على صعوبة الدراسة؟ من أجل تأمين المستقبل، ونحن لماذا نصبر على صعوبة الإسلام وصعوبة الالتزام والدين؟ من أجل تأمين مستقبل ستين سنة، ومن أجل تأمين وظيفة وبيت وبعدها قبر.
لا.
بل من أجل تأمين مستقبل أبدي سرمدي إلى آخر الزمان، في جنة عرضها السماوات والأرض، نؤمن مستقبلنا في الدنيا والآخرة بهذا الالتزام بهذه الصعوبة.
فقلت: يا أخي! أنا معك أن طريق الالتزام والدين صعب، ولكن الأصعب والأهم والكارثة والمصيبة يوم أن تترك هذا الطريق، وتسير في الطريق الخطأ، وبعد ذلك تمشي فيه يعني: معجباً ومخدوعاً بما فيه من اللذات والمتع البسيطة، ثم تقف عند جدار الموت وتنزل وتدخل النار وتقول بعد ذلك كما قال الله عز وجل: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ} [المؤمنون:99].
فتقول الملائكة: لماذا تريد أن ترجع؟ فيقول: {لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ} [المؤمنون:100] فلا تستطيع؛ لديك فرصة واحدة، الآن الطالب المهمل إذا أهمل طوال العام الدراسي ودخل القاعة وسلموا له أوراق الأسئلة فقرأ الأسئلة ولم يستطع أن يجيب على سؤال واحد، فقال للمدير: من فضلك نصف ساعة أخرج خارج القاعة أقرأ الإجابة وأعود، هل يطيعونه؟ هذا مثل ذاك لما دخل القبر قال: يا رب! ردني أعمل صالحاً، قال الله: {كَلاَّ إِنَّهَا