فإذا أردت أن تكون من أتباع الرسول صلى الله عليه وسلم لزمك أن تكون داعية، أي: القضية لم تكن اختيارية، وليست بالمزاج والكيف؛ هل يمكن أن تكون داعية أو غير داعية؟ لا.
بمقتضى أنك مسلم لا بد أن تكون داعية، وليس معنى هذا -أيها الإخوة- على مستوى المنابر والخطب، لا.
داعية على أي مستوى، أقل مستوى أن تكون داعية على مستوى نفسك، من الذي يستطيع أن يقول يوم القيامة: يا رب: والله ما استطعت أن أدعو نفسي إلى الله -أي: ممنوع من دعوة نفسه- هل يستطيع أن يقول هذا أحد؟ ولو أن الأمة فقط دعت إلى الله على هذا المستوى؛ وأن كل مسلم دعا نفسه إلى الله وأمرها بطاعته ونهاها عن معصيته، كيف سيكون حال الأمة؟ لا نحتاج إلى دعاة، إلا مجرد التثبيت والتذكير فقط؛ لأن كل شخص داعية في نفسه، وإذا أنت صلحت في نفسك لم يبق صلاحك محصوراً عليك، سينتشر، هل يوجد في الدنيا صالح 100% ولم تصلح زوجته؟ أبداً.
مستحيل، وأنتم تنظرون الآن والحمد لله كل الشباب الملتزمين زوجاتهم ملتزمات، وبعضهم يتزوج امرأة غير ملتزمة وبمجرد أن يعيش معها أسبوعاً أو أسبوعين يقرأ عليها القرآن والأحاديث، مباشرة تلتزم، تريد من يهديها إلى الله فاهتدت إلى الله.
فصلاحك أنت دعوة، ثم الدائرة الأوسع من صلاح النفس صلاح الأسرة، وتبدأ الأسرة باللبنة الأولى بالزوجة (وخيركم خيركم لأهله) والناس يحملون الحديث: (خيركم خيركم لأهله) يعني: خيركم في الأكل والشرب والتعامل! لا.
هي تشمل هذا، ولكن الخيرية الأعظم: (خيركم خيركم لأهله) ديناً وتربيةً، وكان صلى الله عليه وسلم خير الناس لأهله في هذا المقدار بالقدر المتكامل، أمهات المؤمنين كن كلهن فقيهات في الدين، لكن تجد بعض الدعاة والطيبين زوجته أجهل من الثور، ولا يوم من الأيام قرأ عليها حديثاً، وتراه يحدث الناس، لكنه في البيت إما أن يسكت أو يشاجر، سبحان الله! أولى الناس بالخير أهلك، أولى الناس بالبر والعلم أهلك لا بد أن يكون لك حلقة معهم، إذا كنت داعية وإماماً فعليك أن تذهب إلى البيت لتعلم أهلك ما علمته الناس، وإذا لم تستطع أن تعيد كل شيء فخذ الشريط واتركهم يسمعونه، فإذا انتقلت الدعوة من محيطك النفسي الذاتي إلى المحيط الزوجي الأسري.
أيضاً تنتقل إلى المحيط الأسري الأكبر وهم الأم والأب والإخوة والأخوات، والأبناء والبنات، طبعاً المحيط الأسري الأكبر نوع من الحساسية والصعوبة، خصوصاً دعوة الوالدين والإخوة والأخوات، ليست كدعوة الزوجة، دعوة الزوجة سهلة؛ لأن لك عليها سلطان وقوامة، وتستطيع أن تفرض عليها الحق، وإن كان الأولى أن تقنع به، لكن إذا ما اقتنعت بالطيب تقتنع بالغصب، لكن بالنسبة لأمك وأبيك العلاقة حساسة، والنظرة إليك نظرة ليست متكاملة، أنت تنظر إلى نفسك بمنظار أن عمرك أربعون سنة أو خمسة وثلاثون سنة، لكن والدك ينظر إليك ويعطيك متوسط عمر، يعرف أنك كنت صغيراً، سنة أو سنتين أو خمس كنت مشاكساً وكسولاً وكذاباً ودجالاً ثم في يوم من الأيام هداك الله وتأتي إلى أبيك لتعلمه الدين، ماذا يقول لك؟ يقول: عجيب.
مطوع! الآن تعلمني الدين، اذهب يا دجال، أنت ما تركت كذبة باردة إلا وقلتها! حسناً يا أبي: أنا كنت كذلك لكن الله منَّ عليَّ بالهداية لكن ماذا تفعل مع أبيك؟! تأتي إلى أبيك بمنطق الأستاذية والتعالم؟ لا.
تعال من منطق الود والرحمة والحب والخدمة والعرض، لا تفرض على أبيك حراماً أو حلالاً! لا.
قل: نسأل الشيخ، أو نسمع شريطاً، أو اترك غيرك يعلمه، أما إذا علمته أنت فلن يقبل منك أبداً؛ لأن من عرفك صغيراً حقرك كبيراً، فالناس الذين يعرفونك وأنت صغير يحقرونك وأنت كبير، لكن إذا ذهبت إلى أناس لم يعرفوك صغيراً، فسيقولون لك: يا شيخ، لكن الذين يعرفونه يقولون: هذا لعاب.
نعرفه.
ماذا تصنع مع أمك وأبيك؟ لا تصدر عليهم الأوامر، ولا تبين لهم الأحكام مواجهة، وإنما أولاً بالحب والخدمة، والبر، والصلة، والإحسان حتى يحبوك؛ لأن النفوس مجبولة هكذا؛ جبلت على حب من أحسن إليها، وبغض من أساء إليها.
وبعض الشباب يوم أن يهتدي ينفصل عن الأسرة، ويخرج من الزملاء والإخوان والذهاب والمجيء، وكلما دعاه أبوه: تعال يا ولدي.
أعطيني لبناً، يقول: مشغول، اذهب بأهلك إلى المستشفى، يقول: والله مشغول؛ معنا محاضرة، اذهب بهم إلى السوق، قال: عندي موعد، يقول: الله أكبر عليك وعلى محاضراتك ومواعيدك هذه، والله ما رأينا الشر إلا من يوم أن رأينا محاضراتك ودعواتك! كرهت أباك للدين بأسلوبك، لكن المفروض من حين أن اهتديت أن تلتزم البيت، ولا تذهب ندوة أو درساً، أو اجتماعاً، إلا بإذن أبيك، تقول له: يا أبي! أنا مشغول اليوم؟ تريد أن أذهب السوق؟ أو أذهب بالأهل إلى المستشفى، أو أذهب بهم إلى النزهة، هل يوجد ضيوف سوف يأتونك؟ لا يا ولدي ليس عندنا شيء.
تريدني؟ لا.
اجلس يمكن يأتي أحد، أذهب السوق؟ لا.
فأنا أريد أن أحمل المشتريات عنك! بعض الآباء نراهم -يا إخواني- عمره ستين أو سبعين سنة وهو يحمل المشتريات على كتفه وولده نائم، ما عليك إذا كان ولده سيئ فاسق، لكن ولده طيب وملتزم لكنه لا يخدم والداه، وهذه الخدمة للوالدين من أعظم أنواع البر، بل سماها الرسول صلى الله عليه وسلم جهاداً؛ فإنه لما جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (ائذن لي بالجهاد، قال: أحيٌ والداك؟ قال: نعم.
قال: ففيهما فجاهد) يعني: ابذل جهدك في سبيل رضاهم، وبعض الناس يريد رضى أبيه بدون جهد، وإذا رأى أباه يشدد عليه، قال: أبي متعب جداً.
لا تظهر طاعتك إلا مع الأب الذي مثل هذا، أتريد أباً مفصلاً على مرادك، إذ لا يظهر فضلك إذا كان أبوك طيباً، بل لا بد أن تكون باراً بالأب الذي ضد مقاصدك، أي: إذا أردت أن تذهب، يقول: لا تذهب، فتقول له: حسناً، ولو كان عندك مباراة، لكن عند أبيك ضيوف، من يصب الشاي؟ خاصة إذا كانوا يعلمون أن عنده ثلاثة أو أربعة أولاد بينما هو الذي يأتي بالشاي والقهوة ويصب وهو متعب! أين أولاده؟ ماذا يقول الناس؟ يقولون: لا بارك الله في أولاده! والله ما رأينا واحداً منهم.
لكن عندما يأتي الضيوف وأولاده كلهم مصطفون، واحد يفتح الباب، وآخر يرحب بالضيوف، وآخر يحضر القهوة، وآخر يشغل المكيف وكل واحد يخدم من جهة! سيقول الناس: ما شاء الله! الأولاد من أمامه وعن يمينه ويساره يخدمونه، بارك الله فيهم، فإذا خدمت والدك بهذا الأسلوب أحبك، وإذا أحبك أحب الدعوة التي تدعوه إليها، ويحمد الله ويقول: الحمد لله، والله ولدي من يوم أن اهتدى ما شاء الله، الدين هذا خير وهداية، فقد اهتدى ولدي وجلس معي، ولم يذهب، ومن بعد العشاء يذهب، الله يوفقه، الله يرشده، لكن أن تخرج إلى الشارع؟ حتى ولو كنت على خير، لا.
هذا لا يريده أبوك، أبوك لا يطمئن قلبه إلا إذا رآك في البيت، خصوصاً في هذه الأزمة -يا إخواني- وأنت سوف ترى عندما تكبر ويأتي لك أولاد كيف يتقطع قلبك إذا دق الباب عليك بعد منتصف الليل! لماذا تخرج إلى الشوارع؟ أما تعلم أنه لا يخرج في الليل إلا الحيوانات، فمن بعد العشاء اجعل قلب أبيك يرتاح، اجلس في البيت، اقعد على كتبك وانفع أهلك، هذا ما يجب أن تكون عليه.
فإذا صلحت أنت في نفسك وأصلحت زوجتك وبنيك وبناتك، وأباك وأمك وإخوانك وأخواتك كنت داعية، وتبعث يوم القيامة مبعث الأنبياء، فكما جاء في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (عرضت عليَّ الأمم، فرأيت النبي ومعه الرجل، والنبي ومعه الرجلان، والنبي وليس معه أحد) نبي يوحى إليه يأتي يوم القيامة ولا أحد معه، وثلاثة أنبياء في سورة (يس) معهم واحد، قال الله عز وجل: {إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ} [يس:14].
فيا أخي في الله! لا خيار لك بحكم إسلامك وتبعيتك لهذا الدين، ومتابعتك لهذا الرسول الكريم إلا أن تكون داعية إلى الله، على أي مستوىً من المستويات، لكنك لا تعذر في مستوى نفسك وزوجك وأولادك، أما بعد ذلك فحسب الاستطاعة، فإن منَّ الله عليك بقدرة وعلم وتوفيق؛ فكلما زدت في هداية الناس زادك الله من فضله (لئن يهدي الله بك رجلاً واحداً خيرٌ لك من حمر النعم) (لئن يهدي الله بك رجلاً واحداً خيرٌ لك من الدنيا وما عليها) (ومن دلَّ على هدى كان له مثل أجر فاعله دون أن ينقص من أجورهم شيئاً).
وكل عمل وعبادة فهي لازمة إلا عمل الداعية، فإن عمله متعدِّ، ونفعه دائم، وإذا هدى الله عز وجل على يديك رجلاً واحداً، فإن هذا الرجل وما يعمله من خير كله يسجل في حسناتك، إذا صلى فلك أجر مثل صلاته، وكذلك إذا زكى، وكل عملٍ يعمله لك مثل عمله، ما هذا العمل أيها الإخوة؟! فالله الله -أيها الإخوة- بأن يكون هم المسلم هذا الدين، على الأقل نفسك، لا تدع للشيطان وسيلة في إضلالك وأنت تستطيع أن تنقذ نفسك من النار {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً} [النساء:165] ثم قال الله عز وجل بعد ذلك وهو يشهد {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً} [النساء:79] على أنه رسول من عند الله، قال: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ} [النساء:166] رغم تكذيب هؤلاء، فإذا كذبك وعاندك الكفار، وشكك في رسالتك المنافقون واليهود، فالله يشهد أنك رسوله (لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً} [النساء:166].
أسأل الله الذي لا إله إلا هو أن يثبتنا وإياكم على الإيمان، وأن يشرح صدورنا وإياكم للإسلام، وأن ينور قلوبنا وبصائرنا بالقرآن، وأن ينصر دينه، ويعلي كلمته، ويبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل الطاعة، ويذل فيه أهل المعصية، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، إنه سميع الدعاء.
اللهم احفظ علينا ديننا وأمننا ونعمتنا واستقرارنا، ا