إن الله سبحانه وتعالى زود الإنسان بالعقل من أجل أن يعرف ربه، يقول عز وجل: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل:78] ويقول: في آية أخرى: {وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ} [الأحقاف:26] لماذا؟ قال: {إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ} [الأحقاف:26] ألغوا العقول، والعقل نفسه حجة، ولهذا جعل الله العقل مناط التكليف، بحيث إذا سلبك العقل رفع التكليف عنك: (رفع القلم عن ثلاثة: عن المجنون حتى يفيق) لو أن شخصاً مجنوناً ليس عنده عقل فإن الله لا يؤاخذه يوم القيامة، لماذا؟ لأنه ليس له عقل.
(والنائم حتى يستيقظ) لأن النائم لا يملك العقل، فهو يتصرف تصرفات وهو لا يدري، وإذا استيقظ، قالوا له: أنت تكلمت وفعلت قال: والله لا أدري.
(والصغير حتى يبلغ) لأن تصرفات الصغير غير مسئولة، فالصغير ليس عنده ضوابط، ومتى يكتمل عقله؟ إذا بلغ: سِنَّ الرشد، والنضج، والتكليف، فإذا بلغ فإنه يؤاخذ، وأما قبل البلوغ فلا يؤاخذ.
لماذا جعل الله مناط التكليف هو العقل؟ لأنه يعتبر هادياً ودليلاً، لكن هذه الأدلة وهذه الحجج غير كافية بالنسبة لرحمة الله، لماذا؟ قال العلماء: لأن الفطرة قد تمسخ؛ ولأن الآيات الكونية والدلالات الموجودة في الآفاق والأنفس قد تغطى؛ ولأن العقل قد تغلب عليه الشهوة، الآن هذا كله لا يعقله الناس ولا يستجيبون له؟ أعطيكم مثالاً: الدخان: كل شخص من الناس يعرف أنه مضر، حتى المدخن نفسه تقول له: أسألك بالله من ناحية عقلية، هل الدخان مضر أم مفيد؟ ماذا يقول لك؟ لا يقدر أن يقول لك: إنه مفيد، أي فائدة في الدخان؟ مضر اقتصادياً، وصحياً، واجتماعياً كل شيء فيه مضر -أي: لا توجد أي مصلحة- وإذا قال لك: نعم.
إنه مضر، إذاً كيف تشتري المضر؟ أنت ألغيت عقلك؟ قال: نعم، لماذا ألغى عقله؟ لغلبة شهوته: شهوة العادة والألف والتعود.
إنه يشعل (سيجارة) ويمصها وينفخها وإن رائحتها تغير مزاجه وتريحه قليلاً! جعلت هذه الشهوة سلطاناً عليه أعظم من سلطان عقله، ولهذا يلغي عقله.
ولهذا فالعقل ليس كافياً ليكون حجة لوحده، انظر العقل كيف يشتغل عند الأطعمة: عندما تأتي الآن لتشتري لبناً من السوق وتنظر تاريخ الصلاحية -مثلاً- أمس (27) واليوم (28) وأنت اشتريتها وهي من يوم (27) هل تسكت؟ تدعو صاحب (البقالة) -أو سوبر ماركت- وتقول له: كيف تبيع هذا القديم، سأبلغ عنك البلدية، وفعلاً من حقك أن تبلغ البلدية؛ لأن هذا طعام غير صالح للاستهلاك -أي: طعام فاسد- وصاحب البقالة إنسان لا يهمه مصلحة ولا صحة الناس، أي: رجلٌ مادي يريد أن يمتص دماء الناس ولا يبالي بمن يموت! وبعض الناس يقول: هذه لا تضره (من رأى منكم منكراً فليغيره) هذا منكر، ومن المفروض أن يراجع صاحب (البقالة) كل الأطعمة التي عنده، ويتأكد من صلاحيتها البلدية أو الغرفة التجارية، لماذا؟ لأنه مؤتمن (ومن غشنا فليس منا).
فإذا رأيت طعاماً منتهٍ صلاحيته فلا تتناوله، وكل طعام -في الدنيا- موجود في الأسواق له تاريخ بداية ونهاية إلا الدخان! الدخان ليس له تاريخ صلاحية، خربان منذ صنع، وكتبوا عليه في العلبة: التدخين يضر صحتك، يعني: خربان، ومع هذا لا أحد يشتكي ولا أحد يقول: هذا فاسد، بل يشتريه بأربعة ريالات، ولا حول ولا قوة إلا بالله! لماذا؟ لأن العقل مرفوض لطغيان الشهوة، وكذلك المخدرات، والزنا، فلو أن شخصاً مارس الزنا، وقارن بين جريمة الزنا وما يترتب عليها من آثار في الدنيا والآخرة وبين لذتها، لوجد أنه لا يوجد نسبة ولا تناسب، لذة لا تتجاوز عشرين دقيقة أو ساعة، وبعد ذلك كم تعقبك إذا اكتشفت وقبض عليك على أنك زانٍ سقوط الاعتبار، والعار، والفصل من الوظيفة، والجلد في السوق إن كان الإنسان أعزباً، أو الرجم بالحجارة إن كان سبق أن تزوج أي: محصن، بعد ذلك يوصف بين الناس بأنه زانٍ بعض الناس يقول: سأختبئ ولا أحد يكشفني! لكن أين تختبئ من ربك؟!
وإذا خلوت بريبةٍ في ظلمةٍ والنفس داعية إلى الطغيان
فاستح من نظر الإله وقل لها إن الذي خلق الظلام يراني
إن الله يراك يا أخي! أين تذهب من ربك؟ {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً} [النساء:108] ألا تعلم أن الله محيط بعملك هذا وأنه يراك؟ أين خوفك من الله؟ لم جعلت الله أهون الناظرين إليك؟ لو أن أحداً يراك ألا تستحي؟ إنك لا ترضى أن تمارس الجريمة أمام طفل عمره سنة، تخاف أن يخبر، أو يشير إذا كان لا يتكلم، تقول: يمكن أن يشير لكنه ضعف الإيمان والعياذ بالله.