ولقد طبقت البشرية فترةً من الزمن هذا النظام فسعدت وطابت الحياة، حتى مكث عمر بن الخطاب قاضياً لـ أبي بكر الصديق عامين كاملين وما قدمت له قضية واحدة، لأنه ليس هناك ما يرفع للحكام، فالناس منصفون، والناس يخافون الله، فعندما أختلف أنا وأخي ونصل إلى القاضي وأنا أعرف أن الحق عندي أو أن الحق عنده، إن كان الحق عندي أعطيته بدون حكم القاضي، وإن كان الحق عنده أعطاني بدون قاض، لكن إذا فسدت الذمم النفوس صعبت مهمة القضاة.
يقال: لو أنصف الناس لاستراح القاضي؛ لأن القاضي لا يعلم كيف يحكم بين اثنين أصحاب دعاوى طويلة عريضة، وأصحاب حجج قوية، والحق واحد.
وأيضاً العاطفة لا تحكم الكون، والأهواء لا تسيطر على نظام الحياة، ولو دخلت العواطف في نظام الكون لفسدت الحياة، يقول الله عز وجل: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ} [المؤمنون:71] ماذا يحصل؟ {لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} [المؤمنون:71] تفسد مباشرةً، لماذا؟ لأن أهواء الناس تختلف ورغباتهم تتنوع، وما يرضي زيداً لا يرضي عمراً، وما يصلح لهذا البلد لا يصلح للبلد الثاني، وبالتالي تبدأ الصراعات وتبدأ الرغبات والمنافسات، ويفسد نظام الحياة، أما النظام الواحد الموضوع من قبل الله، فيطبق على الكبير والصغير، وعلى الأبيض والأسود، وعلى العربي والأعجمي، فالناس أمام أحكام الله سواسية كأسنان المشط.
ولهذا كان الجاهليون يستصعبون أن يقام الحد على العظماء والوجهاء، فحين سرقت المرأة المخزومية قالوا: لا يمكن أن تقطع يدها، لا بد أن نرى لها حلاً، وصعب عليهم الأمر، وما تجرءوا أن يشفعوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قالوا: ابحثوا عن أحب رجل عند رسول الله، فوجدوا أن أحب رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أسامة بن زيد، وكان يسمى حِب رسول الله، فجاءوا إليه وكلموه، فقام وتكلم مع النبي صلى الله عليه وسلم، فغضب عليه الصلاة والسلام وقال: (أتشفع في حد من حدود الله يا أسامة! والله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها) لا تدخل هنا العواطف، وقال: (إنما أهلك من كان قبلكم -الذي أفسد نظام الحياة قبلكم في اليهودية وفي النصرانية وفي الجاهلية- أنهم إذا سرق فيهم القوي تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد).
أما في ظل دين الله فلا، وهذا معنى الكمال في هذا الدين العظيم، أنه نظام عظيم، وإن من ضمن ما شرع الله عز وجل في كتابه الكريم: الحدود الشرعية التي تضمنت العقوبة الرادعة والعلاج الناجع لقطع دابر الفساد واستئصاله من أساسه؛ لأن الإسلام لا يعرف حلولاً نصفية.
إذا كان في جسمك الدودة الزائدة وهناك علاج يسكنها لكن يحتمل أن تثور عليك في أي وقت ثم تنفجر وتموت، فماذا يقول الأطباء؟ يقولون: نجري لك عملية، ظاهرها شيء صعب، ولذا يأخذون عليك إقراراً قبل العملية، ويوقعونه من قبل شاهدين بأنك إذا مت فلا تعويض لك بريال واحد فتقول: لا مانع عندي سأوقع، أقرر أنا فلان بأنني راضٍ وموافق على إجراء العملية الجراحية لي، ومتحمل كل ما يحدث عنها من نتائج.
وتدخل غرفة العملية وتسلم نفسك، وتتناول البنج وأنت تعرف أن بعد البنج المشاريط والسكاكين سوف تبدأ تقطع في جسمك وفي بطنك، وتغرق أمعاءك، ويبحثون عن شيء في بطنك يستأصلونه، لماذا؟ أليست هذه قسوة؟ أليست هذه وحشية؟ لماذا الأطباء قساة؟ ليسوا قساة ولكنهم عندهم رحمة بالجسد الكامل فقطعوا هذا العضو الفاسد لئلا يفسد الجسم كله، فتضحي بعضو في سبيل صلاح الجسد.