الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد خاتم النبيين وإمام المتقين، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فقد سبق الكلام على شيء من محظورات الإحرام فلنستذكر ما تكلمنا عليه، منها: الأول: الطيب، أي: أن يتطيب الإنسان بالبخور أو بالتدهن، أو استعمال الطيب على أي وجه كان من الاستعمال وبأي نوع كان من الطيب، والدليل: الرجل الذي وقصته ناقته وهو واقف بـ عرفة فمات، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تحنطوه) والحنوط: أطياب تجعل على الميت.
الثاني: تغطية الرأس بأي غطاء كان، والدليل: حديث الرجل الذي وقصته ناقته فمات فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا تخمروا رأسه) أي: لا تغطوه.
الثالث: قتل الصيد وهو: الحيوان البري المتوحش أصلاً.
صيد البحر هل هو من محظورات الإحرام أو لا؟ ليس من محظورات الإحرام، كيف يخرج من الصيد؟ نحن قلنا: إن الصيد: هو الحيوان البري، وهذا حيوان بحري، الدليل: قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [المائدة:96]، ومن الصيد الأرانب، أما الدجاج فلا يدخل لأنه ليس متوحشاً.
ما حكم نعجة هربت ولم يقدر عليها صاحبها حتى صارت كالضباء: هل يجوز ذبحها أو لا وهو محرم؟ الكبش إذا ند فهو مستوحش استيحاشاً غير أصلي؛ لأن الأصل في الكبش أن يكون مستأنساً فلهذا لا يدخل في الصيد.
كذلك من محظورات الإحرام: الجماع ومقدماته ووسائله وذرائعه.
أيضاً من المحظورات التي أخذنا: لبس الثياب المنصوص على تحريمه، والمنصوص على منع لبسه خمسة أشياء، عبر بعض العلماء عن هذه الخمسة بتعبير قد يكون فيه نظر وهو تعبيرهم عنه بلبس المخيط، وهو يصح طرداً وعكساً، يعني: لو أخذنا بظاهر هذا اللفظ لقلنا كل لباس فيه خياط فهو حرام، وكل لباس لا خياطة فيه بل نسج نسجاً فهو حلال والعلماء لا يريدون هذا المعنى وهو غير مراد أيضاً، نقول: إذا كنا لا نريد به هذا المعنى فلنقل كما قال صلى الله عليه وسلم: (لا يلبس القميص ولا السراويل ولا البرانس ولا العمائم ولا الخفاف) ويدخل فيها ما كان مثلها بالقياس؛ لأن الشرع لا يفرق بين متماثلين.
من محظورات الإحرام: حلق الرأس، لقوله تعالى: {وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة:196] انتبه! (لا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله) ففهم من هذه الآية الكريمة أن حلق الرأس محرم إلى أن يحل الإنسان، لقوله: {حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة:196] وبلوغ الهدي محله يكون يوم العيد، وقد بينت السنة أن الحل يكون برمي جمرة العقبة يوم العيد والحلق، فمن رمى وحلق يوم العيد فقد حل التحلل الأول، ولكن حلق بعض الرأس، هل هو حرام؟
صلى الله عليه وسلم نعم.
هو حرام لأن الشرع إذا نهى عن الشيء فالمطلوب ترك جميعه، ولا يرتكب ولا شيء منه إلا ما أباحته الضرورة، كما أنه إذا أمر بشيء فهو أمر بجميعه ويأتي الإنسان منه ما يستطيع، وإذا نهى الشرع عن شيء فهو نهي عن جميعه وكل أجزائه إلا ما أباحته الضرورة منه، وما أمر به الشرع فهو أمر بجميعه وجميع أجزائه إلا ما لا يقدر عليه منه.
إذاً: حلق بعض الرأس كحلق جميع الرأس، فلا يجوز للإنسان أن يحلق وهو محرم رأسه ولا شيئاً منه إلا ما أباحته الضرورة، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه احتجم وهو محرم، ومن المعلوم أنه لا يحجم الرأس إلا بإزالة الشعر لموضع المحاجم، لا بد أن يحلق شيئاً لموضع المحاجم، وهذا من باب الضرورة، وكذلك أيضاً ثبت من حديث كعب بن عجرة رضي الله عنه أنه حمل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والقمل يتناثر على وجهه من رأسه، فأذن له أن يحلق رأسه وأن يفدي بما ذكر الله عز وجل في الفدية من صيام أو صدقة أو نسك، ففعل رضي الله عنه، هذا دعت إليه الضرورة لأنه أذى، وكل إنسان يتأذى من القمل عندما يتناثر على وجهه من رأسه، وقد قال الله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة:196] يعني: فليحلق وعليه الفدية من الصيام أو الصدقة أو النسك.
هل حلق شعر غير الرأس كحلق الرأس؟ فلو حلق الإنسان عانته وهو محرم أو نتف إبطه وهو محرم، فهل هذا حرام؟ الجواب: جمهور العلماء على أنه حرام، وأن الإنسان لا يجوز أن يأخذ من بقية شعر البدن، قالوا: لأن العلة من النهي عن حلق الرأس هو الترفه؛ فالإنسان يترفه بحلق رأسه ليزيل عنه الأذى، والترفه بحلق العانة ونتف الإبط كالترفه بحلق الرأس، وإلا فليس هناك دليل يدل على تحريم حلق شعر غير الرأس.
هل تقليم الأظفار كإزالة شعر الرأس؟ الجواب: نعم.
جمهور العلماء على ذلك، قالوا: إن تقليم الأظفار كحلق شعر الرأس، وعللوا هذا بأن الجامع بينهما هو الترفه.
هل إزالة الشعر بغير الحلق كإزالته بالحلق؟ يعني: لو قص الشعر قصاً دون حلق، هل يكون كالحلق؟ الجواب: نعم.
لأن العلة واحدة وهو زوال الشعر.
حينئذ يتلخص لنا أن نقول: من محظورات الإحرام: إزالة الشعر وتقليم الأظافر، وإن كان النص لم يرد إلا بحلق الرأس فقط.
بقي علينا من المحظورات: انتقاب المرأة، دليله: قول النبي صلى الله عليه وسلم: {لا تنتقب المرأة} وكذلك لبسها القفازين -وهو: شراب اليدين- لقوله: {ولا تلبس القفازين} وعلى هذا فنقول: من محظورات الإحرام: انتقاب المرأة ولبسها القفازين.
هذه هي محظورات الإحرام، فإذا جاءنا آت، وقال: هذا من محظورات الإحرام.
قلنا له: هات الدليل وإلا فالأصل الحل، ولهذا لما سئل الرسول عليه الصلاة والسلام عن الحلال فيما يلبسه المحرم أجاب بالحرام الخارج عن الأصل؛ ليفهم السامع أن الأصل الحل، لأنك إذا عرفت الممنوع عرفت ما يقابله وهو الحلال، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم عندما سئل: ماذا يلبس المحرم؟ أجاب بما لا يلبس؛ لأن الأصل حل اللباس كله للمحرم.
إذا أتانا آت، وقال: ما تقولون في لبس الساعة للمحرم في يده، هل هو من محظورات الإحرام أم لا؟ الجواب: لا.
ليس من المحظورات؛ لأن الأصل هو الحل.
ونقول لمن قال: إنه من المحظورات: هات الدليل، إن جاء بالدليل وإلا فإن الرسول قال: لا يلبس كذا ولا يلبس كذا ولا يلبس كذا، ومعناه: أن ما سوى ذلك فهو حلال يلبس، ولا يجوز لأحد أن يضيق على عباد الله فيمنعهم مما لم يحرمه الله؛ لأن الله يقول: ((وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ)) [النحل:116].
ومن الحاكم بين عباده؟ الله عز وجل هو الحاكم بين عباده والحاكم على عباده، فليس لنا أن نقول: هذا ممنوع إلا بدليل؛ لأن الله سوف يسألنا، ويقول: لماذا منعتم عبادي من كذا وأنتم لا تعلمون؟ ونقول أيضاً: لبس الخاتم جائز عندكم، أنتم تقولون: لبس الخاتم جائز.
أي: فرق بين لبس الخاتم الذي يوضع على الإصبع محيطاً به، وبين وضع الساعة التي توضع على الذراع محيطة به؟ هل هناك فرق؟ كل منهما محيط.
ولو جاءنا آت، وقال: ما تقولون في لبس نظارة العين هل هي حلال أو حرام؟ الجواب: حلال.
ما هو الدليل؟ الجواب: نقول: الدليل عدم الدليل؛ لأنه ليس عندك دليل على المنع، فإذا لم يكن عندك دليل على المنع فالأصل الحل.
ولو جاءنا رجل آخر وقال: إنه لا يسمع سماعاً قوياً وإنه يلبس سماعة في أذنه، هل يجوز أم لا؟ لو علقها على رقبته نعم يجوز، فإذا قال قائل: هذا ممنوع.
قلنا: عليك بالدليل، وإلا فالأصل الحل.
جاءنا آت، وقال: أنا أسناني ساقطة وقد اتخذت أسناناً مركبة صناعية، فهل يجوز أن ألبسها وأنا محرم؟ نقول: يجوز.
إذا قال قائل: ما الدليل؟ أقول: الدليل عليك أنت، أنت إن قلت: إنها ممنوعة فعليك الدليل وإلا فالأصل الحل.
المهم أنا قد لا أستطيع الإحاطة بكل ما يفعل لكن أعطيكم أصلاً، ما هو الأصل فيما يلبسه المحرم: أهو الحلال أو الحرام؟ الأصل الحلال، ما الدليل؟ أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل: ماذا يلبس المحرم؟ أجاب عما لا يلبس، فكأنه قال للسائل: البس كل شيء ما عدا هذه الأشياء، فإذا ادعى مدع أن هذا ممنوع فإن كان من هذه الأشياء أو بمعنى هذه الأشياء قبلنا قوله: إنه ممنوع أو رفضنا قوله: إنه ممنوع، وليعلم أن العطاء أحب إلى الله من المنع، وأن الحل أحب إلى الله من التحريم، وأن التيسير أحب إلى الله من التعسير، هذه ثلاث قواعد أحب أن تفهموها، لأنها تفيدكم فائدة عظيمة في كثير من مسائل الدين.