أما الحديث الثالث والسبعون فهو قوله: وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: (كنت أمشي مع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في حرة المدينة، فاستقبلنا أحداً، فقال: يا أبا ذر! قلت: لبيك يا رسول الله! قال: ما يسرني أن عندي مثل أحد هذا ذهباً تمضي عليه ثالثةٌ وعندي منه دينار إلا شيءٌ أرصده لديني، إلا أن أقول في عباد الله هكذا وهكذا وهكذا، عن يمينه وعن شماله وعن خلفه ثم سار، ثم انطلق عليه الصلاة والسلام فقال: إن الأكثرين هم الأقلون يوم القيامة) وفي حديث يأتي بعده: (إن الأكثرين -أي: مالاً- هم الأقلون يوم القيامة، إلا من قال هكذا وهكذا وهكذا عن يمينه وعن شماله ومن خلفه، وقليلٌ ما هم.
ثم قال لي: مكانك لا تبرح حتى آتيك) قال: رواه البخاري واللفظ له، ومسلم، وفي لفظ لـ مسلم قال -أي: أبو ذر -: (انتهيت إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهو جالس بيمين الكعبة، فلما رآني قال: هم الأخسرون ورب الكعبة، قال: فجئت حتى جلست فلم أتقار أن قلت: فقلت يا رسول الله! فداك أبي وأمي من هم؟ قال: هم الأكثرون أموالاً، إلا من قال هكذا وهكذا وهكذا من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله، وقليلٌ ما هم ... ) ورواه ابن ماجة مختصراً: (الأكثرون هم الأسفلون يوم القيامة، إلا من قال هكذا وهكذا وكسبه من طيب) هذه هامة جداً.
ومكسبه حرام، لا، بل قال: (ومكسبه من طيب) أيضاً.
نعود إلى شرح ما هو من الضروري شرحه، يقول أبو ذر وهو صحابي معروف، ومن المشهورين بالزهد والرغبة عن الدنيا، قال: (كنت أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم في حرة المدينة) الحرة: هي الأرض التي يكثر فيها الحجارة السوداء الصغيرة، والمدينة تقريباً كُل ما حولها هي حرة، وإن كان بعض العلماء يحصرون الحرة بالجهة الشمالية فقط، لكن الأعم هو الأصح؛ لأن هناك بعض الأحاديث تدل على أن الحرة ليست محصورة فقط في المدينة الشمالية، ويؤكد هذا أنه لا فرق بين الأرض الشمالية والشرقية والغربية؛ لأن كلها فيها هذه الحجارة السوداء.
قال: (فاستقبلنا أحداً) وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث آخر: (جبل أحد يحبنا ... ) ، فهنا أثبت ل أحد إحساساً وذلك بأنه يحبهم، وقد يقول قائل: كيف ذلك وهو جماد؟ فنقول: هذا مثل إحساس الكلب الذي إذا رأى صاحبه فإنه يبدي حركة خاصة، فهو يفرح بقدوم صاحبه بتحريك خاص، وهذا حيوان لا يفهم، له فهمه، لكنه فهم حيواني في حدوده، وهذا الفهم الحيواني خاص بهذا الحيوان الذي هو الكلب، وهناك حيوانات عديدة كما نعلم، وكل حيوان له فهم خاص به، فما الذي يمنع ورحمة الله واسعة أن يكون الله عز وجل خلق حتى في الجمادات نوعاً من الإحساس، ليس من النوع الخشن.
إذا ذاع الخبر وجب الإيمان والتسليم.
الكثير لا يتوقع مثل هذه الحادثة، ولكن أذكر من باب الاستشهاد قوله تعالى: {يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ} [الكهف:77] أي: الجدار يريد أن ينقض، نسب هنا إلى الجدار إرادة، فيأتي المعطلون يقولون: هذا مجاز وليس حقيقة، ونحن مع القاعدة الشرعية اللغوية: أن الأصل في كل عبارة الحقيقة، وأنه لا يجوز الخروج عنها إلى المجاز إلا بدليل اضطرنا إلى هذا الخروج إذا لم يكن هناك دليل، فالقاعدة تقول: يجب أن نبقى على الحقيقة، الآن في مثل هذا الحديث (جبل أحد يحبنا ... ) .
ما هو الدليل لمن يضطر إلى هذا التأويل؟ جهلنا أن يكون هناك في هذا الجبل إحساس خاص بالحب، هل هذا الجهل دليل؟
صلى الله عليه وسلم لا.
لذلك نقول: الإيمان بالإسلام كتاباً وسنةً هو الذي يوفق أفق المؤمن وعقله وتفكيره، والعكس بالعكس تماماً، لهذا نحن ندعو دائماً وأبداً إلى اتباع الكتاب والسنة، ليس على طريقة التأويل -هذه الطريقة التي ابتدعها الخلف- وإنما على طريقة التسليم التي سلكها السلف، ولذلك نكرر دائماً وأبداً: نحن لا ندعو إلى الكتاب والسنة فقط، بل إلى الكتاب والسنة وعلى منهج السلف الصالح.
وإلا لا فرق بين هؤلاء المسلمين الذين بلغوا ثلاثاً وسبعين فرقة، أو كادوا أو زادوا، الله أعلم بذلك، لكن المهم أن التفرق كثير وكثير جداً، كلهم يقولون: كتاب وسنة، حتى القاديانية الذين يقولون بنبوة الغلام بن أحمد القادياني، يقولون: الكتاب والسنة، لكن يفسرون النصوص هكذا بطريق التأويل، وإنكار المعاني الحقيقية من نصوص الكتاب والسنة.
يقول: (فاستقبلنا أحداً، فقال -أي: الرسول عليه السلام- يا أبا ذر! قلت: لبيك يا رسول الله!) هنا ملاحظة، لماذا يناديه وهو معه؟ هذا من باب تهيئة النفس لتلقي ما سيلقى عليه من العلم: (قال: يا أبا ذر! قال: لبيك يا رسول الله!) وهذا جواب معروف لغة، ومعروف استعماله من الصحابة كثيراً وكثيراً جداً مع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ولعله ألفت من كلمة (نعم) وانظروا خير البشر، المعصوم عن أن يتلاعب به الشيطان ويفتنه بالمال، فقال-: (ما يسرني أن عندي مثل أحد هذا ذهباً تمضي عليه ثالثة) الرسول لا يحب أن له جبل ذهب مثل جبل أحد - (تمضي عليه) أي: على هذا الذهب الكثير الموجود عند الرسول عليه السلام (ثالثة) أي: ليلة ثالثة من بعد ما حصل الرسول عليه السلام هذا المال الكثير، ولو كان كـ جبل أحد، لا يسره أن يبقى هذا المال عنده أول ليلة وثاني ليلة وثالث ليلة، تدخل والمال لا يزال عنده، لا يسر النبي عليه السلام هذا- (لا يسرني أن عندي مثل أحد هذا ذهباً تمضي عليه ثالثة وعندي منه دينار واحد) أي: أن الرسول لا يُبقي معه مالاً إطلاقاً، ما الذي يفعله؟ يفرقه كما أشار في الحديث، يميناً ويساراً وخلفاً وليس أماماً فقط، أي: ينفقه على من حوله من المسلمين.