Q ما هو الضابط الذي يميز الأمور الاعتقادية عن غيرها من الأمور التشريعية؟
صلى الله عليه وسلم قبل الإجابة عن هذا الضابط أقول: إن مما دخل في الإسلام ولا يعرفه السلف الصالح، هو تقسيم الدين إلى أقسام لم يأتِ عليها نص في الكتاب ولا في السنة، من ذلك تقسيم الدين إلى أصول وفروع، ومن ذلك ما جاء السؤال حوله، وهو تقسيم الإسلام إلى أمور اعتقادية وأحكام شرعية، وبناءً على هذا الاصطلاح الحادث جاء هذا السؤال: ما هو الضابط في تمييز الأمور الاعتقادية عن الأمور التشريعية -أي: الأحكام الفقهية-؟ من حيث اعتقادنا أن هذا التفريق لا أصل له، فأنا أنصح السائل بأنه لا يهتم بمعرفة هذا الضابط، بقدر ما يجب عليه أن يعرف أي شيءٍ كان هل هو من الإسلام أم ليس من الإسلام؟ ثم لا عليه بعد ذلك إذا عرف هذا الاصطلاح بقسميه، وأنه ينطبق على هذه الجزئية، القسم الأول أو القسم الآخر؛ لأن المهم عهو طاعة الله عز وجل في كل ما شرع، ولا يهمنا أبداً أن نعرف الأمور الاصطلاحية، لا سيما إذا كان يترتب من وراء هذه الأمور الاصطلاحية الاهتمام ببعضها دون الاهتمام بالبعض الآخر، أو تقويم -ويقولون اليوم: تقييم وهو خطأ- تقويم قسم منها ما يستحقه دون القسم الآخر وكله شرعي، ويترتب من وراء اصطلاح كهذا تنزيل قيمة بعض هذه الأحكام الشرعية عن البعض الآخر، فهذا اصطلاح يجب الإعراض عنه، بل يجب أن يضرب به عرض الحائط.
الآن أجيب على السؤال مع ضرب المثال الذي يتفرع من هذا الاصطلاح يميزون الأمور الاعتقادية عن الأمور التشريعية: بأن كل خبرٍ جاء في الكتاب أو في السنة له علاقة بأمر غيبي وليس له علاقة بحكم شرعي عملي، فهذا هو الذي يعنون به أنه من الأمور الاعتقادية، وبالعكس إذا كان ذلك الأمر الذي جاء في الكتاب والسنة يترتب من ورائه حكم عملي فهو حكم شرعي، ويتبين من هذا التقرير بأن الأمور الغيبية هي الأمور الاعتقادية، فمثلاً: الاعتقاد بعذاب القبر لا يترتب وراءه عمل؛ لأنه يقف فقط عند العقيدة، وكذلك الاعتقاد بالملائكة، ووجود الجن، وأشراط الساعة، ونحو ذلك من أخبار بدء الخلق وقيام الساعة، فكل شيء ليس له علاقة إلا بالعقيدة فهو من الأمور الاعتقادية، وما يقابل هذا من الأمور العملية هي الأحكام الشرعية.
وما حصيلة هذا التقرير؟ ذلك ما أشرت إليه أن بعضهم ابتدع فقال: إذا كانت الأمور الشرعية من القسم الأول -أي: لها علاقة بالأمور الغيبية الاعتقادية- وكان ذلك الأمر قد جاء في حديث صحيح فلا يؤخذ به؛ لأن له علاقة بالأمور الاعتقادية، أما إذا جاء هذا الحديث في القسم الثاني من الأحكام الشرعية فيجب الأخذ به؛ لأنه تضمن حكماً شرعياً، وهناك لا يؤخذ؛ لأنه تضمن أمراً اعتقادياً، هذا اصطلاح ليس له أصل في الكتاب والسنة مطلقاً، وإنما هو من علم الكلام والفلسفة الذي تسرب إلى المسلمين في صور شتى، فانحرف بهم عن كثيرٍ من دينهم وشريعتهم.
ولنا رسالة في بيان أن هذا التفريق بين الأمور الاعتقادية والأمور التشريعية تفريق لا أصل له، وأنه مجرد أن يأتي الخبر عن الرسول عليه الصلاة والسلام صحيحاً يجب الإيمان والتصديق به؛ سواءً تضمن عقيدةً فقط أو تضمن حكماً شرعياً.
وهذه الرسالة مطبوعة، وباستطاعة من كان حريصاً على التوسع في هذه المسألة أن يرجع إليها.
لكني قبل الانتقال إلى الإجابة عن سؤال آخر أريد أن أذكر بحقيقة هامة، قلت في تلك الرسالة وفي غيرها: إن هذا التفريق مع أنه لا أصل له، لو عكس ذلك رجلٌ مثلي لكان أقرب إلى الصواب، أي: أن يقول: لا يجوز الأخذ بالأحكام إلا بالحديث المتواتر القطعي الذي اشترطوه في العقيدة فقط، أنا أقول: لو عكسوا لكانوا أقرب إلى الصواب، ولا أقول: لأصابوا؛ لأن التفريق لا أصل له في الشريعة، لكن لو عكسوا لكانوا أقرب إلى الصواب؛ لأن كل حكم شرعي يتضمن عقيدةً، وليس كل عقيدة تتضمن حكماً شرعياً، فمثلاً: الإيمان بعذاب القبر قضية اعتقادية محضة، لكن اعتقادك بأنه يجب كذا، أو يستحب كذا، أو يحرم كذا، فهذا يتضمن عقيدة، لو أن رجلاً صلى ركعتين والناس نيام بغير قصد التقرب إلى الله فلا يستفيد من ذلك شيئاً إطلاقاً، ولو صلاهما بقصد الفرض لا يستفيد من ذلك شيئاً؛ لأنه تضمن عقيدة عملها لكنه تضمن عقيدة غير مشروعة، عندما صلاهما بنية الفرض، لكن لما صلاهما بنية النفل صارت عبادة.
فكل أحكام الشريعة لا يمكن أن نفصل فيها بين الحكم وبين الاعتقاد بمضمونه، فالأحكام الخمسة التي تعرفونها: الفرض والسنة والحرام والمباح والمكروه، هذه كلها لا تنفصل عنها العقيدة، وإذا تصورنا حكماً عملياً قام به مسلم وفصلنا عنه الاعتقاد به لم يكن حكماً شرعياً مطلقاً.
لذلك فاشتراط الحيطة والحذر في الأحكام الشرعية التي تتضمن عقيدة وعملاً، أولى من اشتراط الحيطة والحذر في الأمور التي لا يقترنها حكم عملي، كالإيمان بعذاب القبر مثلاً، لكننا نقول: لا يجوز التفريق بين هذا وهذا مطلقاً.
عرفنا إذاً أننا بصفتنا مسلمين نتمسك بما كان عليه السلف الصالح من مفاهيم الكتاب والسنة، ونمشي على آثارهم، أننا لا نفرق بين الأمور الاعتقادية وبين الأحكام الشرعية، فكل ذلك دين يجب أن نتعبد الله به، لا نفرق بين العقيدة وبين الحكم الشرعي والعبادة، فإذا ثبت حديث وتضمن حكماً شرعياً سلمنا تسليماً، وإذا جاء حديث صحيح -أيضاً- وتضمن أمراً غيبياً سلمنا تسليماً، لا نفرق بين هذا وهذا؛ لأن السلف ما فرقوا بين هذا وهذا، وكذلك الأئمة الأربعة لا يصح عن أحدٍ منهم التفريق بين العقيدة وبين الأحكام الشرعية، وإنما حدث التفريق -كما أشرنا آنفاً- من بعض المتأخرين من علماء الكلام.
الذي نريد أن نذكر به مرة أخرى: موضوع الكفر الاعتقادي والكفر العملي، الذي تخبط فيه الشباب في العصر الحاضر تخبطاً خطيراً جداً، حتى وقع ألوف منهم في مذهب الخوارج، فكفَّروا المسلمين بسبب عدم تفريقهم بين الكفر الاعتقادي والعملي نحن نقول: الكفر الاعتقادي مقره القلب، وهذا لا يعلمه إلا الله تبارك وتعالى، والكفر اللساني نحن نعرفه؛ لأننا نسمع، وإنما ندين الناس مما يظهر لنا منهم من أعمالهم ومن أقوالهم، فعندما نفرق بين الكفر الاعتقادي والكفر العملي لا نريد أن نقول: فلان عند الله مؤمن، أو هو عند الله كافر، بل أمره إلى الله تبارك وتعالى، فإذا ظهر لنا منه ما يدلنا على أنه كافر بقلبه، فنحن نعامله على ما ظهر لنا منه وحسابه إلى الله تبارك وتعالى، لكن المشكلة التي هي نقطة الدقة في الموضوع، أننا نجد في العصر الحاضر أناساً يظهر منهم ما يدل على إسلامهم وإيمانهم، ومن جهة أخرى يظهر منهم ما يدل على كفرهم، فما هو الشيء الذي نغلبه على هذا الجنس من البشر؟ هنا يقع الخبط والخوض، فمجرد أن نرى في الإنسان -مثلاً- تركاً للصلاة حكمنا عليه بأنه مرتد عن دينه، وهو لم ينكر مشروعية الصلاة، فضلاً عن أن يكون موظفاً -مثلاً- في دولة لا تحكم بما أنزل الله، فنقول: إنه كافر مرتد عن دينه.
هذه الظواهر لا تدل على ما في قلب هذا الإنسان يقيناً حتى نتبنى الحكم عليه بالظاهر، لا سيما -كما قلت آنفاً- أن هناك ظواهر أخرى تدلنا على إسلامه، ولست أريد الخوض في هذه المسألة إلا بمقدار ما أنبه السائل أننا حينما نقول: الكفر الاعتقادي والكفر القلبي؛ لنحكم بالعدل بالنسبة للمكلفين أمام الله يوم القيامة، أما هنا في الدنيا فقد يظهر لنا إنسان كافر وهو ليس بكافر عند الله، وبالعكس؛ يظهر لنا أنه مسلم وهو منافق كبير عند الله تبارك وتعالى، وهذا معروف في التاريخ الإسلامي الأول فضلاً عن تاريخنا الحاضر.
أضرب لكم مثالاً نبهتكم عليه مراراً: أكثر أئمة المسلمين يقولون بالنسبة لتارك الصلاة: إنه يقتل حداً ويدفن بمقابر المسلمين، وشيخ الإسلام ابن تيمية يقول: لا يتصور إنسان يؤثر القتل على أن يصلي، فهو يقتل كفراً؛ لوجود القرينة على أن هذا رجل كما يقال اليوم في لغة العصر الحاضر: عقائدي؛ لأنه لو كان لا ينكر الصلاة لما أثر القتل عليها وصلى ولو نفاقاً.
أما هذا السؤال الذي أنت تسأل عنه، تريد قرينة ظاهرة تستند إليها، تقول: يقتل حداً أو كفراً، ما دام أنك ما استطعت أن تصل إلى قرينة ظاهرة، وتدل قطعاً أنه منافق بقوله، فحينئذٍ حسبك أن الشارع أعطاك صلاحية استئصال شره من وجه الأرض، ثم حكمه إلى الله عز وجل، فهو يعلم السر وأخفى.