وعندنا مسألة: (خلق الله عز وجل) وأنا مضطر إلى الإيجاز؛ لنستطيع الإجابة عن هذه الأسئلة، لا سيما ومثل هذا البحث كنا قد طرقناه مراراً طرقاً تفصيلياً، إنما نلفت نظر السائل والحاضرين إلى أن خلق الله عز وجل له صورتان: خلق مباشر لا دخل للإنسان فيه، فهذا الإنسان فيه مسير.
وله أمثلة واضحة جداً: نحن في مجلس يجمع كثيراً من الناس، فهذا طويل، وهذا قصير، وهذا أسمر، وهذا أصفر، وهذا أشقر، وهذا أبيض.
إلخ، هذا خلق الله ليس لأحد منا فيه إرادة مطلقاً، ولكن نرى بعض الناس ساتر الرأس، وآخرين حسراً، وأناساً حليقين، وأناساً بلحية أهكذا الله خلقنا؟ لا.
هذا كله من صنعنا نحن، لكن بمشيئة الله عز وجل: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير:29] ومثال أدق من هذا الواقع: نحن كذرية لآدم عليه السلام، كل منا له والدان، فنحن مِنْ خلق الله، لو لم يتصل أبي وأمي ما كنت أنا، لو لم يتصل أبوك وأمك ما كنت أنت وأنت إلخ، نحن خلق الله، لكن بالواسطة.
ما هي الواسطة؟ كلفنا الله سبحانه أن نحصن أنفسنا وأن نحصن نساءنا، وأن نتمتع بحلالنا، فيأتي من وراء ذلك إذا شاء الله الذرية، فالخلق كله خلق الله، لكن شيء منه يخلقه الله دون تكليف للبشر، وشيء منه هو بتكليف من الله للبشر.
فهذا النوع الثاني من خلق الله يجب أن ندندن فيه ليرسخ في الذهن كل شيء هو من خلق الله، ليس كما تقول المعتزلة أبداً، وكل شيء بمشيئة الله، لكن المهم أن تعرفوا التفصيل، فشيء من خلق الله بواسطتنا نحن أمرنا، كلَّفنا، تعبَّدنا، وشيء بمحض إرادتنا واختيارنا، فهذا خلق لكن بكسبنا وإرادتنا.
بعد هذه التوطئة المختصرة الوجيزة، فهل الإنسان مسير أم مخير؟
صلى الله عليه وسلم أولاً: الإنسان في قسم مما يتعلق به مسير، أي: لا كسب ولا إرادة، والأمثلة كثيرة وقد ذكرناكم ببعضها.
ثانياً: ليس مسيراً -بمعنى: مجبوراً؟ لا.
بل مختار، والآن أنا أتكلم وأنتم تصغون، ترى نحن مسيرون في هذا وهذا، أم مختارون؟ مختارون جميعاً، ما جئتم إلى هنا ولا جئت أنا هنا إلا بمحض اختياري، ولا أتكلم إلا بمحض اختياري، والآن إن شئتم سأصمت، والله لم يفرض عليَّ الكلام، سأصمت، وإن شئتم أطول عليكم الصمت لكن لن يناسبنا الآن.
أقول: هذا الكلام هو خلق الله، لكن باختياري، فالإنسان في بعض الأمور مسير، وفي أمور أخرى مخير، وأي إنسان يقول: إن الإنسان مسير دائماً، فأرجو أن تصفعه في وجهه، فإذا قال لك: لِمَ؟ تقول له: أنا مجبور مسير، لست بمخير.
والفلسفة التي دخلت في الاعتزال والمعتزلة هي التي أفسدت فِكر المسلمين التي توافق تماماً ما جاء في كتاب الله، وما جاء في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول الله: {وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} [التوبة:105] هل يقال لمن كان مجبراً مسيراً، يقال له: اعمل، اركع، اسجد، توضأ؟ هذا الكلام مستحيل، لو كان لك عبد فغللته بالأغلال وقلت له: اذهب إلى السوق واشتر هذه الحاجة لكنت أنت من أظلم الناس، فكيف يتصور هؤلاء القائلون بالجبر أن الله عز وجل خلق الإنسان وأجبره على طريق الخير أو الشر؛ فهو مجبور مسير دائماً، كيف يقال هذا في الله، هو أحكم الحاكمين، وأعدل العادلين، ونحن لا نرضى أن نصف أنفسنا بما يصف هؤلاء ربهم ظلماً وبغيا، وهذا أمر مكتوب وواضح جداً.
ولقد بالغ في الكفر وفي الضلال ذاك الشاعر الذي وصف ربه -ممثلاً لعلاقة العبد مع ربه- قائلاً:
ألقاه في اليم مكتوفاً وقال له إياك إياك أن تبتل بالماء
أجبر الجبارين وأظلم الظالمين لو فعل هذا، لكان فوق ظلمه وفوق جبروته، فكيف ينسب هذا إلى الله؟! تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً.
الحديث المعروف في الصحيحين أنه عليه الصلاة والسلام قال ذات يوم: (يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفاً بغير حساب وجوههم كالقمر ليلة البدر) ثم في القصة شيءٌ من الطول، قال عليه الصلاة والسلام في وصفهم: (هم الذين لا يسترقون ولا يكتوون، ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون) فقام رجل من الصحابة اسمه عُكّاشة فقال: يا رسول الله! ادع الله أن يجعلني منهم، قال: أنت منهم، فقام رجل آخر فقال: يا رسول الله! ادع الله أن يجعلني منهم، قال: سبقك بها عُكّاشة) .
هؤلاء السبعون ألفاً هم نخبة السبعينات الأخرى -أي: خواص- فإذا هو استزاد من بربه فزاده سبعين ألفاً آخرين، هذا ليس معناه أنهم في نفس المنزلة والفضيلة، بمعنى: إذا كان من الصعب على بعض الحاضرين أن يفهموا أن هؤلاء هم النخبة الأولون، فنحن نتساءل الآن: ترى أي سبعين من هذه السبعينات يدخل الجنة قبل؟ الجواب: هؤلاء السبعون الأولون، فمن هذا يظهر أنه لا تعارض بين هذا وذاك الحديث.