في هذا الحديث تنبيه لأمور تتعلق بنا نحن، وتتعلق بالأمة التي تنصب مفتين وقضاة يحكمون بغير ما أنزل الله، ويتناسى هؤلاء جميعاً الوعيد الشديد المذكور في ثلاث آيات من القرآن الكريم: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44] {فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة:47] {فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة:45] هذه آيات صريحة بذم، بل بالحكم بالكفر على من لم يحكم بما أنزل الله، ولكن ههنا كلمة قصيرة: أن الحكم بغير ما أنزل الله منه حكمٌ يرادف الردة، ومنه حكمٌ لا يلزم منه الردة، التفصيل الذي ذكرناه في الكذب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أيضاً لا بد من استحضاره في تفسير هذه الآيات الثلاث {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44] قال ابن عباس في تفسير (الكافرون) في هذه الآية: [كفر دون كفر] أي إن الكفر نوعان: كفر اعتقادي قلبي، كفر عملي، وهذا ما يجهله كثيرٌ من المسلمين اليوم وخاصة منهم الشباب الناشئ، فإنهم يتوهمون أن كل من لم يحكم بما أنزل الله فهو مرتد عن دينه، وليس كذلك، بل يجب أن يُنظر إلى الحاكم الذي يحكم بغير ما أنزل الله، فإن كان يحكم بغير ما أنزل الله مستحلاً له بقلبه، مؤثراً له على حكم الله وحكم نبيه، فهذا هو الذي يرتد به عن دينه، أما إن كان في قرارة قلبه يعتقد بأن الحكم بما أنزل الله هو الصواب وهو الواجب، لكن يقول: أعاننا الله على هؤلاء البشر كيف لنا أن نحكم إلا بهذا، فهو يجد لنفسه عذراً، ولو أنه عذر غير مقبول، إنما اعتذاره بهذا العذر يدل على أنه يؤمن بحكم الله وحكم رسوله، أنه هو الصواب، ولكن انحرف عن هذا الحكم، كما ينحرف كثيرٌ من الناس الذين نظن بهم خيراً.
الحاكم المسلم الذي يحكم بكتاب الله، وبحديث رسول الله ليس معصوماً، فقد يضل في حكمٍ ما، أي: يُرشى -مثلاً- فيحكم بغير ما أنزل الله، فهذا ينطبق عليه قوله تعالى: {فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44] ولكن بأي معنى (أولئك هم الكافرون) كفر ردة أم كفر معصية؟ ننظر إذا كان حينما ارتشى وحكم للراشي بما ليس له، إن كان يعتقد أنه آثم في نفسه، كما يعتقد الغاش، والسارق، والزاني إلخ، فهو آثم وليس بكافر، وهذا معنى (كفر دون كفر) ، وإن كان يقول كما يقول كثير من الشباب الذي تثقف الثقافة الأجنبية ولما يدخل الإيمان في قلبه، يقول: بلا إسلام بلا إيمان بلا رجعية بلا كذا إلخ، فهذا وضع الغطاء على رأسه بالكفر، فهو إلى جهنم وبئس المصير.
فإذاً: يجب أن نعرف أن الواجب على المسلم أن يحكم بما أنزل الله، وبما فسره وبينه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ سواءً كان مفتياً عادياً كرجل يمشي في الطريق فيأتي إنسان ويسأله، فيجب عليه أن يتثبت ولا يقول له: حرام حلال؛ لأنه درس في كتاب الله أنه حرام أو حلال، كذلك المفتي الرسمي (الموظف) أولى وأولى ألا يفتي الناس بدون رشد، وبدون بينة وحجة، والقضاء أولى وأولى ألا يحكم القضاة في قضائهم إلا بما جاء في كتاب الله، وما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
ولخطورة القضاء على الكتاب والسنة قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (القضاة ثلاثة: فقاضٍ في الجنة، وقاضيان في النار، قاضٍ عرف الحق فقضى به فهو في الجنة، وقاضٍ عرف الحق فلم يقض به فهو في النار، وقاضٍ لم يعرف الحق فحكم أو فقضى فهو في النار) ؛ لأنه قضى بجهل، إذاً يجب القضاء بالكتاب والسنة، فإذا قضى بالكتاب والسنة فهو الناجي، وإذا قضى بخلاف ما عرف من الكتاب والسنة فهو آثم، وإذا قضى بجهلٍ بالكتاب والسنة، وليس المعنى أنه ما عرف المذهب الحنفي، أو المذهب الشافعي؛ لأن هذا ليس هو العلم- فهو أيضاً آثم، لذلك قال ابن القيم رحمه الله، وبكلامه أختم درسنا هذا:
العلم قال الله قال رسوله قال الصحابة ليس بالتمويه
ما العلم نصبك للخلاف سفاهة بين الرسول وبين رأي فقيه
كلا ولا جحد الصفات ونفيها حذراً من التعطيل والتشبيه
والحمد لله رب العالمين.