حكم الفتيا بقول أحد العلماء في المسائل الخلافية

يا ترى من استفتيَ في مسألة أو في قضية فأفتى برأي عالمٍ -أي عالمٍ كان- وهو يعلم أن المسألة فيها قولان فأكثر، فهل أفتى بثبتٍ أي: بحجةٍ وبينة؟

صلى الله عليه وسلم لا.

لأنه حينما تكون المسألة من المسائل الخلافية، وقد صدر للعلماء فيها قولان فأكثر، فهو أفتى بقولٍ من القولين دون أن يدعم فتواه -ولو في نفسه على الأقل- بآية من كتاب الله، أو بحديثٍ من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا لا يكون قد أفتى عن ثبتٍ، وعن حجةٍ، وعن بينة؛ فيكون فتواه بهذا الخطأ لا يتعلق الإثم على المستفتي، وإنما على المفتي، فإثمه عليه.

إذاً: على كل متفتٍ أن يتثبت في فتواه، أي: أن يستند في فتواه إلى كتاب الله وإلى حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

ومعنى هذا الكلام العلمي بعبارة واضحة بينة: أن المستفتى -أي العالم- إذا استفتيَ في مسألة ما، ولنضرب على ذلك مثلاً: رجل سأله: خروج الدم أينقض الوضوء؟ فقال: نعم، وهو يعني أن المذهب الحنفي هكذا يفتي، فإذا نحن رجعنا إلى هذا الحديث نفهم أن هذا الجواب إثمه عليه وليس على المستفتي، لماذا؟ لأن هناك قولين آخرين في هذه المسألة، فالمذهب الحنفي يحكم ببطلان الوضوء بمجرد خروج الدم عن مكانه، أما المذهب الشافعي فيقول: لا ينقض الدم الوضوء مطلقاً مهما كان الدم كثيراً، بينما مذهب الإمام مالك وأحمد يفصل فيقول: إن كان الدم كثيراً نقض وإلا فلا، فالذي أفتى وقال: ينقض، أين الحجة في حكمه والمسألة فيها اختلاف؟ والله عز وجل يقول: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء:59] ولذلك فلا يجوز للمسلم المتمذهب بمذهب واحد إذا استفتي في مسألة أن يفتي على مذهبه؛ لأن هناك مذاهب أخرى، فهذا يجب أن يمسك عن الفتوى، فإن أفتى فهو آثم بدليل هذا الحديث، وهو قوله عليه الصلاة والسلام: (ومن أفتى بفتيا بغير ثبتٍ -أي: بغير سندٍ وحجةٍ- فإثمه على من أفتاه) فالذي يقول: خروج الدم ناقض للوضوء، أو غير ناقض، أو ينقض إن كان كثيراً، ولا ينقض إن كان قليلاً، أي جوابٍ كان؛ إذا كان لم يستند صاحبه على سند من الكتاب أو من السنة؛ فإثمه عليه وليس على المستفتي، لماذا؟ لأن المستفتي أدى واجبه الذي أمره به ربه: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43] جاء هذا الذي لا يعلم إلى من يظن أنه من أهل الذكر، فسأله فأفتاه، فإثمه على هذا المفتي، فهذا المفتي.

عليه أن يراقب الله عز وجل حينما يسأل، وألا يفتي إلا عن ثبتٍ وحجة وسند، فإن لم يفعل فهو آثم، وقد نبه لهذه الحقيقة الإمام أبو حنيفة رحمه الله حين قال: لا يحل لرجلٍ أن يفتي بقولي ما لم يعلم من أين أخذت دليلي.

هذا نص عن الإمام أبي حنيفة رحمه الله، أول الأئمة الأربعة يفسر لنا هذا الحديث، الذي يقول: (من أفتى فتيا بغير ثبت فإنما إثمه على من أفتاه وليس على المستفتي) فيقول الإمام أبو حنيفة رحمه الله: لا يحل لرجل أن يفتي بكلامي ما لم يعلم من أين أخذت دليلي.

فهذا الحنفي الذي سئل: الدم إذا خرج أينقض الوضوء؟ فأجاب: نعم.

لا يجوز له هذا بحكم هذا الحديث، وبحكم قول الإمام السابق؛ لأنه لم يعرف دليله، ومعنى هذا أو حصيلة هذا الحديث هو: وجوب دراسة الكتاب والسنة؛ لكي يتمكن المفتي من أن يفتي بالدليل من الكتاب والسنة، فلا يلحقه إثمٌ، حتى ينجو في حال لو أخطأ في الفتوى؛ لأنه ليس معنى من أفتى معتمداً على الكتاب والسنة أنه معصوم من الخطأ، لا.

ولكن إذا اجتهد فأفتى بما فهم من الكتاب والسنة فله حالتان: إما أن يكون أصاب فله أجران، وإما أن يكون أخطأ فله أجرٌ واحد، لكن هذا إنما هو -أي الأجران إذا أصاب، والأجر الواحد إذا أخطأ- إنما هو للذي يفتي اعتماداً على الكتاب والسنة، أما الذي يقلد -والتقليد جهلٌ باتفاق العلماء- ولا يتبصر في الفتوى، فهذا ليس له أجر، ولا حتى أجر واحد، بل عليه وزر؛ لأنه أفتى بغير ثبتٍ، وبغير بينة وحجة، فحصيلة هذا الحديث هو: وجوب رجوع العالم في كل ما يفتي به إلى الكتاب والسنة.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015