وهنا شبهة ترد كثيراً وكثيراً في مثل هذه المناسبة، يقولون: إن الرسول عليه الصلاة والسلام قد قال في الحديث السابق: (من جر إزاره خيلاء) ، فنحن اليوم سواءً كنا شباباً أو شيوخاً، لا نجر الثياب تحت الكعبين خيلاء، وإنما هو عادة و (موضة) ويحتج أولئك بما جاء في صحيح البخاري: أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه لما سمع هذا الوعيد الشديد لمن يجر إزاره خيلاء قال: (يا رسول الله! فإن ثوبي يقع، فقال له عليه السلام: إنك لا تفعله خيلاء) ، فيتمسك أولئك بقول الرسول عليه الصلاة والسلام هذا لـ أبي بكر، ويحتجون به على أن إطالة الثوب تحت الكعبين إنما يكون ممنوعاً إذا اقترن بهذا القصد السيئ، ألا وهو: الخيلاء والتكبر.
الآن أقول: جوابي على هذا من وجهين اثنين: الأول: أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه لم يقل: أنا حينما أُفَصِّل ثوبي أجعله طويلاً تحت الكعبين لا أقصد بذلك الخيلاء، وإنما قال: يقع! وهذا يعرفه الذين اعتادوا أن يلبسوا العباءة، فقد تكون العباءة مُفَصَّلة حسب السنة، أي فوق الكعبين؛ لكن مع الانطلاق والسير والعمل والصلاة تصبح العباءة متدلية إلى الخلف فتنزل إلى ما تحت الكعبين هذا هو الذي أشار إليه أبو بكر في سؤاله، وقال له الرسول صلوات الله وسلامه عليه: (إنك لا تفعله خيلاء) .
أما أن يأتي الرجل فيُفَصِّل الثوب -أيَّ ثوبٍ كان مما سبقت الإشارة إليه- طويلاً خلافاً للشرع، ويبرر ذلك بأنه لا يفعل ذلك خيلاء، فهذا من تلبيسات الشيطان على بني الإنسان.
وبعد هذا نقول في الجواب عن هذه الشبهة، بعد أن أوضحنا أن حديث أبي بكر الصديق إنَّما يعني الثوب الذي يستطيل بدون قصد صاحبه، ما لَمْ يُوْصِلُه صاحبه ويفصِّله طويلاً تحت الكعبين، ويدَّعي أنه إنما يفعل ذلك بغير قصد الخيلاء، نقول: ليس من المفروض في المجتمع الإسلامي الصحيح أن يعمل المسلم -فضلاًَ عن جماهير المسلمين- عملاً يحتاج كل منهم إلى أن يبرر هذا العمل بحسن النية، فهذا الأمر لا يكاد ينتهي، وهذا يخالف نصوصاً من الأحاديث الصحيحة التي تربي المسلم على ألاَّ يعمل عملاً، وألاَّ يتكلم كلاماً، وألاَّ يقول قولاً يحتاج بعد ذلك كله إلى أن يقدم له عذراً، حيث قال عليه الصلاة والسلام: (لا تَكَلَّمَنَّ بكلام تعتذر به عند الناس) هذا خاص بالكلام؛ لكن يأتي الحديث الآخر يشمله ويشمل غيره من الأعمال، ألا وهو قوله عليه الصلاة والسلام: (إياك وما يُعْتَذَرُ منه!) .
فمن يطيل ثوبه تحت الكعبين، فيُنْكِرُه عليه العارف بالسنة، فيقول: يا أخي! أنا لا أفعل ذلك خيلاءً، -كما قال أبو بكر الصديق -.
فأولاً: إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عرف أبا بكر الصديق، وعرف تواضعه، وأنه قد تبرأ من الكِبْر ولو ذرة منه، فقال وشهد له بأنه لا يفعل ذلك خيلاء، فليس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد يستطيع أن يشهد مثل هذه الشهادة لإنسان آخر، لا سيما في مثل هذه المجتمعات الفاسدة.
وثانياً: قد قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الآخر: (أزْرَة المؤمن إلى نصف الساق ... ) هذا الحديث يضع لك منهجاً عملياً يجب أن تلتزمه، دون أن تبرر مخالفتك إياه بحجة أنك لا تفعل تلك المخالفة خيلاء، حيث يقول: (أزْرَة المؤمن إلى نصف الساق، فإن طال فإلى الكعبين، فإن طال ففي النار) .
فهنا لا يُسْمَعُ مِن أحد يطيل ثوبه إلى ما تحت الكعبين أنه لا يفعل ذلك خيلاءً؛ لأننا نقول: إنك تفعل ذلك مخالفة لهذا النهج النبوي، وانتهى الأمر، أما إن انضمَّ إلى ذلك أنك فعلتَه خيلاءً فقد استحققت ذلك الوعيد الشديد، ألاَّ ينظر الله تبارك وتعالى إليك يوم القيامة نظرةَ رحمة.
ذلك هو ما ابتلي به شباب اليوم، لاسيما وهم يتخذون ذلك من باب اتباع التقاليد الأوروبية والموضة الغربية، من إطالة السروال -أعني: البنطلون- حتى يكاد يتهرَّى من أسفل بسبب اتصاله بالأرض، فهذا محرم لا يجوز؛ سواءً قصد لابسُه الخيلاء أو لم يقصده، وهي في الأصل ابتُدِعَت من هناك تكبراً وخيلاء، لا شك في هذا ولا وريب؛ لأن الكفار لا يهمهم في هذه الدنيا إلا التمسك بحب الظهور والتكبر على الناس ونحو ذلك، وما دام أن هذه الأزياء إنما تأتينا من تلك البلاد فهي لم يُقْصَد بها قطعاً وجه الله تبارك وتعالى، إنما قُصِد بها وجه الشيطان.
وهذا الكلام يشمل كل الأزياء التي تَرِد إلى هذه البلاد الإسلامية؛ سواء ما كان منها متعلقاً بأزياء الرجال أو بأزياء النساء، فكيف ما كان منها مخالفاً لمثل ذلك الحديث الصريح الذي يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (أَزْرَة المؤمن إلى نصف الساق، فإن طال فإلى الكعبين، فإن طال ففي النار) ؟! هذا مما يجب على كل مسلم يغار على دينه ويهتم به أن يكون بعيداً عن غضب ربه تبارك وتعالى عليه، ولا نقول: هو حريص على اتباع السنة؛ لأن السنة مراتب، قد تدخل تحتها الأمور المستحبة، نحن الآن نتكلم عن الأمور الواجبة، انظر الحديث السابق: (أزْرَة المؤمن إلى نصف الساق ... ) هذا هو المستحب؛ لكن إذا أطاله إلى الكعبين فهذا جائز وليس بمحرم؛ لكن إن زاد في الإطالة حتى تحت الكعبين فهذا محرم وصاحبه في النار، وينبغي أن يُفْهم من قوله عليه السلام: (وما طال ففي النار) أنه لا يعني: الثوب؛ لأن الثوب ليس مكلفاً ولا يحاسَب! وهذا له أمثلة كثيرة في الشريعة، منها ما نفتتح به خُطَبَنا ودروسَنا من قوله عليه السلام: (كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار) أي: كل بدعة في النار، فما هي البدعة؟! هي شيء معنوي وليس شيئاً مُجَسَّماً؛ لكن معنى قوله: (وكل ضلالة في النار) أي: صاحبها في النار.
وكذلك الإزار الذي يطيله صاحبه إلى أسفل الكعبين، صاحبه في النار.
هذه تذكرة أردتُ أن أوجهها إليكم؛ لإرشاد من كان يريد منكم أن يكون تحت رحمة ربه عز وجل يوم يُحْشَر الناس {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88-89] .