Q حديث قليب بدر، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم أتى إلى البئر الذي كان ألقي فيه القتلى من صناديد قريش فناداهم بأسمائهم: (يا فلان بن فلان! إني وجدت ما وعدني ربي حقاً، فهل وجدتم ما وعدكم ربكم حقاً؟ يا فلان بن فلان! ستة عشر شخصاً يناديهم بأسمائهم، يقول عمر رضي الله عنه: يا رسول الله! إنك لتنادي أجساداً لا أرواح فيها) .
نرجو التوضيح؟
صلى الله عليه وسلم أنا أرجو من السائل بصورة خاصة والمستمعات بصورة عامة أن ينتبهن لقول عمر؛ لأن هذا هو بيت القصيد إذا أردنا أن نفهم هذه القصة فهماً صحيحاً.
عمر يقول: (يا رسول الله! إنك لتنادي أجساداً لا أرواح فيها) ما معنى كلام عمر؟ كأنه يريد أن يقول ولكن لا يجرؤ أن يقول إلا بكلام لطيف ولطيف جداً، يقول: يا رسول الله! نحن تعلمنا منك أن الأموات لا يسمعون، أنت الذي أنزل إليك وبلغت ما أنزل عليك: {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر:22] {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} [النمل:80] فما بالك يا رسول الله! الآن في هذه الساعة تنادي أجساداً لا أرواح فيها؟ فهل قال رسول الله لـ عمر: أخطأت؟ أنا ما قلت لك هكذا، أو ما بلغتك شيئاً من هذا؟ بل أقره على قوله: (إنك لتنادي أجساداً لا أرواح فيها) ولكنه أجابه وأفهمه شيئاً ما كان عمر ليفهمه لولا بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال له: (ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكنهم لا يستطيعون أن يجيبوا) كأنه يقول عليه الصلاة والسلام: أنا الذي قلته يا عمر هو حق وصواب، وفعلاً أنا بلغتك أن الموتى لا يسمعون، ولكن الله تبارك وتعالى أحيا هؤلاء حتى سمعوا النداء وفهموا التبكيت والإنكار، ولو استطاعوا أن يجيبوا لقالوا: نعم.
إنا وجدنا ما وعدتنا حقاً، ولكن ولات حين مندم، ولات حين مناص! -يقول الرسول-: (ولكنهم لا يستطيعون أن يجيبوا) .
إذاً: قصة قليب بدر تؤكد ما سبق ذكره من أن الموتى لا يسمعون، ولكن في الوقت نفسه هذه القصة تعطينا تنبيهاً عظيماً، وهو أن المسلم لا يجوز أن يجمد على المعتاد من الأمور، ومن العادات، ومن السنن التي يمكن أن نسميها بالسنن الكونية، أي: إذا كان من سنة الله عز وجل أن الموتى لا يسمعون، فلا ينبغي أن يضيق عقله عن أن يؤمن بأن الله عز وجل قادر على أن يسمع الموتى الذين من طبيعتهم أنهم لا يسمعون، هذه هي الفائدة والنكتة من قصة قليب بدر.
أي: إن الله عز وجل قادر على إسماع الموتى الذين عادة لا يسمعون، كما أن الله عز وجل قادر على أن يمكن النبي صلى الله عليه وسلم من أن يصعد إلى السماوات العلا، حيث لا يستطيع إنسان في الدنيا أن يصعد هذا الصعود؛ لأنه خلاف سنة الكون، فالله عز وجل خلق الإنسان وخلق له قدرات محدودة النطاق، فهو يبصر ويسمع ويمشي ويرفع، ولكن بنسب محدودة، هو ينظر مسافة مثلاً (كم) ، لكن لا يستطيع أن ينظر إلى مائة (كم) فضلاً عن أكثر من ذلك، يرفع خمسين (كجم) مائة (كجم) مائتين (كجم) بعد تمارين عديدة، لكن لا يستطيع أن يرفع ألف (كجم) -مثلاً-؛ لأن هذه حدود الطاقة البشرية التي طبع الله البشر عليها، ولكن الله عز وجل بقدرته يستطيع أن يمكن إنساناً أن يرفع ألف (كجم) باليد الواحدة؛ لأن الله على كل شيء قدير، وعلى هذا جاءت قاعدة معجزات الأنبياء، وكرامات الأولياء هو من باب خرق العادة، أما السنن فلا تساعد على ذلك.
كذلك جماعة قليب بدر من الكفار هم على اعتبار الأموات لا يسمعون، ولكن الله أسمعهم، لذلك قالها صريحة أحد رواة هذا الحديث وهو قتادة، حيث قال: [أحياهم الله له عليه السلام] أي: ما سمعوا وهم موتى، وإنما أحياهم الله عز وجل فسمعوا قوله عليه السلام ومناداته إياهم.
إذاً: قصة قليب بدر تؤكد أن الموتى لا يسمعون كما قال ربنا تبارك وتعالى.
وهنا ملاحظة: ومن الفقه الدقيق لما قال عمر: (يا رسول الله! إنك لتنادي أجساداً لا أرواح فيها) وسكت الرسول على ذلك، معناه: أن سكوته إقرار، لكن من جهة أخرى أفهم عمر أن هنا أمراً خارقاً للعادة؛ أي: أن هؤلاء سمعوا مثلما أنتم تسمعون، لكن أنتم أحياء تسمعون بطبيعتكم، فهؤلاء أموات لا يسمعون بطبيعتهم، ولكن الله أحياهم فسمعوا، فخضع عمر.
يشبه هذه القصة تماماً من حيث أن الرسول أقر الصحابي على ما قال من الإنكار، ولكن علمه ما لم يكن يعلم، مثل هذا قصة أبي بكر الصديق:، حينما دخل ذات يوم على النبي صلى الله عليه وسلم وهو مسجىً -مغطى- كأنه نائم، وعنده جاريتان من الأنصار تغنيان، تضربان عليه بدف، فلما دخل أبو بكر الصديق قال: (أمزمار الشيطان في بيت رسول الله؟!) -ينكر الغناء الصادر من الجاريتين في بيت الرسول، والرسول حاضر- فرفع عليه الصلاة والسلام رأسه وقال: دعهما يا أبا بكر، فإن لكل قوم عيداً وهذا عيدنا) هذا تماماً على ميزان قول عمر، ورد الرسول عليه، فكما أن الرسول ما أنكر على عمر قوله: (إنك لتنادي أجساداً لا أرواح فيها) كذلك لم ينكر على أبي بكر الصديق قوله: (أمزمار الشيطان في بيت رسول الله) ولكن علمه ما لم يكن يعلم، كأنه عليه الصلاة والسلام قال لـ أبي بكر: إن هذا الذي تقوله حق، هذا مزمار الشيطان؛ الغناء هو مزمار الشيطان، لكن هنا استثناء بمناسبة العيد، لذلك قال: (دعهما فإن لكل قوم عيداً وهذا عيدنا) .
إذا أردنا أن نأخذ فقهاً من مجموع إنكار عمر وتعليم الرسول إياه، تكون النتيجة: الأموات لا يسمعون إلا إذا أحياهم الله معجزة للنبي فيسمعون.
وإذا أردنا أن نأخذ فقهاً من إنكار أبي بكر الصديق وإقرار الرسول لهذا الإنكار، مع تعليمه إياه ما لم يكن يعلم من قبل، نخرج بالنتيجة الآتية: الغناء بالدف مزمار الشيطان إلا في يوم العيد، هذا الاستثناء هو الذي لم يكن يعلمه أبو بكر الصديق من قبل فعله الرسول صلى الله عليه وسلم.
إذاً: قصة قليب بدر لا تنافي حقيقة أن الموتى لا يسمعون.