بقي علينا في الدرس الماضي أن نبين أن من الشرك بالله عز وجل: أن تتخذ معه مشرعاً غيره، فالتشريع هو صفة من صفات الله عز وجل وخصوصية له، لا يجوز لمسلم أن يعتقدها أو أن يعطيها لشخص في الدنيا مهما علا وسما؛ وذلك لما جاءت النصوص من الكتاب والسنة صريحة في بيان أن التشريع ليس هو إلا لله عز وجل.
فالله عز وجل ينكر على المشركين الذين كانوا يحرمون أشياء من عند أنفسهم، ويحللون أشياء أخرى مقابل تلك من عند أنفسهم، بقوله عز وجل: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى:21] فهذا إنكار على الذين يشرعون من عند أنفسهم، وهناك إنكار على الذين اتبعوا أمثال هؤلاء المشرعين من عند أنفسهم، فقال ربنا تبارك وتعالى ذاماً ومنكراً على النصارى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} [التوبة:31] .
وقد أشكلت هذه الآية على بعض الصحابة؛ لأنه فهم منها أن إشراك المشركين من النصارى إنما كان من النوع الأول، وهو الإشراك في الربوبية فقط، فقال أحدهم وهو عدي بن حاتم الطائي، وقد كان من النصارى القليلين الذين تدينوا بدين النصارى يومئذ وقرأ وكتب، ثم هداه الله عز وجل إلى الإسلام فأسلم، وصحب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وحضر مجالسه، فلما تلا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في مجلس من تلك المجالس على الصحابة هذه الآية: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} [التوبة:31] استغرب عدي بن حاتم هذا الحكم؛ لأنه كان من المتفقهين في دين النصارى، فقال: يا رسول الله! ما اتخذناهم أرباباً من دون الله، كأنه فهم أن الله عز وجل عندما قال: ((اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً)) [التوبة:31] أي: يعتقدون فيهم أنهم يخلقون مع الله، فبين له الرسول عليه الصلاة والسلام أن الآية لا تعني ذلك، وإنما تعني: أن النصارى أشركوا مع الله عز وجل حينما اتخذوا قسيسيهم ورهبانهم مشرعين من دون الله عز وجل؛ فوقعوا في الشرك، وكأنهم اعتقدوا أن هؤلاء أرباب مع الله يتصرفون في الكون كما يشاءون، فذلك الذي أراده ربنا عز وجل في هذه الآية.
فرجع الرسول عليه الصلاة والسلام إلى عدي يقول له: (ألستم كنتم إذا حرموا لكم حلالاً حرمتموه، وإذا حللوا لكم حراماً حللتموه؟ قال عدي: أما هذا فقد كان، فقال صلى الله عليه وسلم: فذاك اتخاذكم إياهم أرباباً من دون الله) فبهذه الآية مع تفسيرها يتبين أن الإنكار لا يشمل فقط الذين ينصبون أنفسهم منصب المشرع، فيحلل ويحرم، ويبيح ويحضر ما يشاء، دون أن يستند في شيء من ذلك إلى شرع الله عز وجل، فالإنكار لا ينصب على هذا المشرع وحده فحسب، وإنما يشمل أيضاً أولئك الذين يتبعونهم ويتخذونهم مشرعين من دون الله عز وجل.
ولعل هذا من معاني قول الله عز وجل في المشركين: {فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ} [النساء:89] فالمسلم حينما يتبع شخصاً يحرم ويحلل؛ فقد جعله ولياً يستنصر به من دون الله عز وجل، فهذا شرك ليس من شرك الذات، وإنما هو شرك في العبودية وفي الصفات، لذلك يجب أن يحذر المسلم.
وقد يكون مستغرباً أن نقول: يجب أن يحذر المسلم من أن ينصب نفسه مشرعاً مع الله عز وجل؛ لأننا نعتقد أنه لا أحد في المسلمين يشرع من دون الله عز وجل، ولعل هذا يكون كذلك.
ولكن على العكس من ذلك؛ فالمتوفر والموجود بكثرة هو اتخاذ مشرعين من دون الله عز وجل، فهذا يجب التحذير منه أيما وجوب؛ لأن الذين يتخذون من دون الله أولياء مشرعين يحرمون ويحللون، وهؤلاء وجد منهم كثيرون، ولكن الذين يتبعونهم أكثر وأكثر في كثير من القرون التي مضت، وخاصة في العصر الحاضر حينما أصبح التشريع والتقنين طبيعة لكل الدول الحاكمة والمسيطرة والموجهة لشعوبها وأممها.
ولذلك كثر في العصر الحاضر من كثير من الكتاب الإسلاميين المصلحين التنبيه والتحذير من أن يتورط المسلم فيخضع لمشرع غير الله عز وجل، وكثر من هؤلاء بالتالي الأمر بإخلاص العبادة لله عز وجل والتشريع له، وتخصيص الحاكمية له تبارك وتعالى وحده لا شريك له.