إن من سنة الله عز وجل في عباده أنهم قد يختلفون في بعض المسائل تفاهماً لها، فينبغي علينا أمران اثنان: الأمر الأول: أن نتعاون على فهم النص من الكتاب والسنة فهماً صحيحاً، بحيث أنه لو كان من المستطاع عادة ألا يكون بيننا أي خلاف لوجب ذلك علينا، وإذا كان من غير الممكن القضاء على الخلاف -كما تدل على ذلك سنة الله في خلقه وفي أصحاب نبيه- فلا أقل من أن نسعى إلى تقليل الخلاف.
وإننا لا نعتقد ما يعتقده جماهير المسلمين اليوم من إطلاقهم القول بأن: الاختلاف رحمة، فإن هذا القول لم يرد إلا في حديث منكر، بل موضوع، ألا وهو: (اختلاف أمتي رحمة) كما أنه لم يرد إلا في مثل هذا الحديث، فهو مصادم لنصوص الكتاب والسنة التي تدعو جميع الأمة إلى ألا يتفرقوا ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، ولكن إذا قال قائل: إذا كان من غير الممكن إزالة الخلاف من أصله وجذره، كما تعترف أنه كان واقعاً في أصحاب الرسول عليه السلام؛ فليس لنا أن نقلب الحقيقة فنجعل الاختلاف رحمة.
نحن نقول: الاختلاف الذي لا بد منه، والذي إنما يكون بعد أن أنفذنا وبذلنا كل جهودنا في سبيل الاتفاق على فهم النص على وجه معين؛ فإذا بقي شيء من الاختلاف فنقول: لا حول ولا قوة إلا بالله! لا بد مما لا بد منه، أما أن نصف هذا الاختلاف الذي بقي رغماً عنا بأنه رحمة؛ فهذا ليس له وجه من الوجوه إطلاقاً، حسبنا أن نقنع برحمة ربنا بنا حينما قال على لسان نبينا: (إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر واحد) فقد أثبت الحديث الصواب وأثبت مقابله الخطأ، أما أن نَصِف الخطأ بأنه رحمة فهذا لا يمكن أن يكون.
لذلك فنحن وسط بين أولئك الناس، وهم جماهير المسلمين اليوم -مع الأسف الشديد- الذين يرضون بهذا الواقع من الاختلاف الكثير، الذي لم يقف عند حدود الاختلاف في الفروع كما يزعمون، بل تعدى ذلك إلى الاختلاف في الأصول، أي: في العقيدة.
نحن لسنا مع هؤلاء الذين يقولون: اختلافهم رحمة، ولسنا -أيضاً- مع أولئك الذين قد يخيل إليهم أنهم يستطيعون أن يوجدوا ويحققوا مجتمعاً هو أكمل وأهدى سبيلاً من مجتمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، نحن إذا كنا نجتهد وبإمكاننا ألا نكون من أولئك الذين يقولون: اختلافهم رحمة، فلن نستطيع أبداً أن نكون خيراً من أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وإنما نحن كما قال الشاعر تماماً:
فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم إن التشبه بالكرام فلاح
فنحن نسعى أن نستن ونهتدي بهدي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين اهتدوا مباشرة بهديه دون أن يدخل بينهم وبينه أي واسطة.
فإذاً: الحق وسط بين الجماهير الذين يقولون: الاختلاف رحمة، وبين القليل من الناس الذين بتحركهم على وحدة الكلمة وعلى توحيد الصف، يتوهمون أنه بالإمكان أن نجعل كل فرد مطابقاً في فهمه للجمهور، هذا أمر مستحيل! إذاً: يجب أن نتوسع قليلاً إذا ما ضيق غيرنا، وأن نضيق إذا ما وسع غيرنا؛ لأن هذا التوسع الذي لا حدود له خلاف الكتاب والسنة كيف يكون الاختلاف رحمة وربنا عز وجل يقول: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود:118-119] ؟ فإذا كان الاختلاف رحمة فيا ترى هل يكون الاتفاق نقمة؟ والله يقول: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} [هود:118] ؟ البشر لا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك، فالمرحومون لا يختلفون.