يذكر أهل التاريخ في ترجمة أبي عبد الله بن بطة وهو من كبار علماء الحديث عند الحنابلة، أنه كان يكره أشد الكراهة هذا القيام الذي اعتاده الناس اليوم وقبل اليوم بمئات السنين، فخرج ذات يوم مع صديق له شاعر إلى السوق، فمرا برجل عالم جالساً في محله، وهذا من أدب العلماء قديماً، أنهم كانوا يعتمدون في تحصيلهم لرزقهم على كد يمينهم وعرق جبينهم، فمرا بهذا العالم مسلِّمَينَ، فقام هذا العالم لـ ابن بطة، وهو يعلم أن ابن بطة يكره هذا القيام على نحو ما تسمعون ذلك، فاعتذر إليه ببيتين من الشعر، وقال له:
لا تلمني على القيام فحقي حين تبدو ألا أمل القياما
أنت من أكرم البرية عندي ومن الحق أن أجل الكراما
كلام العالم بعضه صحيح: فمن حقه أن يجل الكرام، وقد ذكرنا حديثاً بل حديثين آنفاً، أن من حق المسلم إجلال الرجل الكبير، ولكن هل يكون الإجلال بمخالفة السنة؟ هل -مثلاً- يكون الإجلال بالسجود؟ لا.
كل الناس يقولون: لا.
هذا سجود لغير الله لا يجوز -عفواً لقد قلت: كل المشايخ يقولون: بأنه لا يجوز السجود لغير الله، وكنت أتمنى أن أكون موفقاً للصواب حينما قلت: كل المشايخ، لكن آسف ومضطر أن أقول: ليس كلهم يقولون كذلك، فهناك في بعض الطرق من تقاليدهم أن المريد حينما يريد أن يأخذ الإذن من الشيخ أن يطوف في المجلس فيسجد للشيخ، ويقولون: هذا سجود تعظيم وليس سجود عبادة.
قد تكلمنا عن هذا في كثير من الرسائل هل يعظم المسلم بالسجود؟ الجواب والحمد لله: لا.
على الأقل عند الجمهور، أما أولئك فهم شواذ، وعندنا حديث معاذ بن جبل لما جاء إلى هذه البلاد قبل فتحها بالإسلام ورجع إلى المدينة، فأول ما وقع بصره على النبي صلى الله عليه وسلم هوى ليسجد له، فقال له: (مه يا معاذ! قال: يا رسول الله! إني أتيت الشام فرأيت النصارى يسجدون لقسيسيهم وعظمائهم، ورأيتك أنت أحق بالسجود منهم) هذا كلام صحيح، لو كان السجود لغير الله جائزاً، فهو أحق أن يسجد له ممن يسجد للقساوسة والرهبان.
وقد قال عليه الصلاة والسلام: (لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت الزوجة أن تسجد لزوجها) وذلك لعظم حقه عليها، وفي حديث: (لكن لا يصلح السجود إلا لله تبارك وتعالى) .
إذاً: لا يجوز تعظيم المسلم بالسجود؛ لأن هذه خصوصية لله عز وجل.
ومن إجلال المسلم أن أركع له؟ الجواب أيضاً: لا.
إلا في بعض الطرق، أو الذين استجازوا السجود فمن باب أولى يستجيزون الركوع.
وجاء في حديث أنس بن مالك أيضاً في سنن الترمذي وغيره، قال سائل: (يا رسول الله! أحدنا يلقى أخاه أفيلتزمه؟ قال: لا.
قال: أفينحني له؟ قال: لا، قال: أفيصافحه؟ قال: نعم) إذاً: الانحناء أيضاً كتحية أجنبية لا تصح من مسلم لمسلم، فذاك العالم لما قال:
ومن الحق أن أجل الكرام
هذا كلام صحيح، لكن عمله ليس صحيحاً؛ لأنه ليس وسيلة مشروعة لتعظيم الرجل للعالم؛ لذلك قال ابن بطة لصاحبه الشاعر، ويبدو أن هذا الشاعر كان يعرف رأي ابن بطة بدقة، وكان فيما يبدو أيضاً شاعراً بالفطرة أو بالسليقة، فعلى الفور وعلى القافية أجابه بقوله:
أنت إن كنت لا عزمتك ترى ليَ حقاً وتظهر الإعظاما
فلك الفضل في التقدم والعلم ولسنا نريد منك احتشاما
الشاهد هنا:
فاعفني الآن من قيامك أولا فسأجزيك بالقيام قياما
وأنا كارهٌ لذلك جداً إن فيه تملقاً وأثاما
لا تكلف أخاك أن يتلقاك بما يستحل به حراما
كلنا واثقٌ بود أخيه ففيم انزعالنا وعلاما
لذلك فواجب الدعاة المسلمين المخلصين حقاً، أن يرجعوا بهذا المجتمع الإسلامي الضخم إلى العهد الأول في كل شيء، ليس فقط في العقيدة، وليس فقط في العبادة، وإنما إلى الإسلام كله، ومن ذلك العادات والتقاليد، نحافظ عليها كما ورثناها عن سلفنا الصالح، وهذا واضح جداً، فلو أن المجتمع الإسلامي اليوم كان متربياً على ما ربى عليه الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه لم يكن لهذا القيام محل من الإعراب -كما يقولون- لماذا؟ قال هذا الشاعر المتفقه من العالم الفقيه:
وإذا صحت الضمائر منا اكتفينا من أن نتعب الأجساما
كلنا واثقٌ بود أخيه ففيم انزعالنا وعلام
لذلك نسعى بما عندنا من علم، ونتعاون مع إخواننا المسلمين جميعاً، على أن نعود إلى هدي الرسول عليه الصلاة والسلام، فهو كما سمعتم آنفاً وتسمعون بين كل كلمة نقولها: فإن خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار.