ولما كان القرآن متميزاً بنفسه، بما خصه الله به من الإعجاز الذي بايَنَ به كلام الناس، كما قال تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} [الإسراء:88] ، وكان منقولاً بالتواتر، لَمْ يسمع أحدٌ في تغيير شيءٍ من ألفاظه وحروفه؛ ولكن طمع الشيطان أن يدخل التحريف والتبديل في معانيه بالتغيير والتأويل، وطمع أن يُدْخِل في الأحاديث من النقص والازدياد، ما يَضِلُّ به بعضُ العباد، فأقام الله تعالى الجهابذة النقاد، أهل الهدى والسداد، فدحروا حزب الشيطان، وفرقوا بين الحق من البهتان، وانتَدَبوا لحفظ السنة ومعاني القرآن، من الزيادة في ذلك والنقصان.
وقام كلٌّ من علماء الدين بما أُنْعِم به عليهم وعلى المسلمين، مقام أهل الفقه الذين فقهوا معاني القرآن والحديث، بدفع ما وقع في ذلك من الخطأ في القديم والحديث، وكان من ذلك الظاهر الجلي الذي لا يسوغ عنه العدول، ومنه الخفي الذي يسوغ فيه الاجتهاد للعلماء العدول.
وقام علماء النقل والنقاد بعلم الرواية والإسناد، فسافروا في ذلك إلى البلاد، وهجروا فيه لذيذ الرقاد، وفارقوا الأموال والأولاد، وأنفقوا فيه الطارف والتِّلاد، وصبروا فيه على النوائب، وقنعوا من الدنيا بزاد الراكب، ولهم في ذلك من الحكايات المشهورة، والقصص المأثورة، ما هو عند أهله معلوم، ولِمَن طلب معرفته معروفٌ مرسوم، بِتَوَسُّدِ أحدِهم التراب، وتركِهم لذيذ الطعام والشراب، وتركِ معاشرة الأهل والأصحاب، والتصبُّر على مرارة الاغتراب، ومقاساة الأهوال الصعاب، أمرٌ حببه الله إليهم وحلاه؛ ليحفظ بذلك دين الله، كما جعل البيت مثابة للناس وأمناً، يقصدونه من كل فجٍ عميق، ويتحملون فيه أموراً مؤلمة تحصل في الطريق، وكما حبَّب إلى أهله القتال؛ الجهاد بالنفس والمال، حكمة من الله يحفظ بها الدين ليهدي المهتدون، ويظهر به الهدى ودين الحق الذي بعث به رسوله ولو كره المشركون.
فمن كان مخلصاً في أعمال الدين، يعملها لله كان من أولياء الله المتقين، وأهل النعيم المقيم، كما قال تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [يونس62-64] .
وقد فسر النبي صلى الله عليه وآله وسلم البشرى في الدنيا بنوعين: أحدهما: ثناء المسلمين عليه.
الثاني: الرؤيا الصالحة، يراها الرجل الصالح، أو تُرَى له، فقيل: (يا رسول الله! الرجل يعمل العمل لنفسه فيحمده الناس عليه، قال: تلك عاجل بشرى المؤمن) .
وقال البراء بن عازب: سئل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن قوله: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [يونس:64] ، فقال: (هي الرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح، أو تُرَى له) .
والقائمون بحفظ العلم الموروث عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم الرّبان، الحافظون له من الزيادة والنقصان، هم مِن أعظم أولياء الله المتقين وحزبه المفلحين، بل لهم مزية على غيرهم من أهل الإيمان والأعمال الصالحات، كما قال تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:11] .