فقه الاستقرار وفقه السياقات

وأنا أؤكد كثيراً على مسألة فقه الاستقراء وفقه السياقات وما إلى ذلك؛ لأن هذا هو مبلغ السلف في أصول الدين وفروعه.

والمقصود بالاستقراء إما للشريعة بعامة أو لباب خاص منها، وفقه السياق هو ما يتعلق بسياق النص.

ما يتعلق بسياق النص: تجد أن بعض الكلمات ربما صارت عزماً، مثلاً: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما في الصحيحين من حديث أبي سعيد رضي الله عنه: (غسل الجمعة واجب على كل محتلم)، وفي كلام الأصوليين أن من أدوات الوجوب (على)، وأن (على) تدل على الوجوب لمثل قول الله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران:97]، قالوا: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (غسل الجمعة واجب)، فكلمة (واجب) من اللزوم، وقوله: (على) أيضاً من اللزوم.

ولذلك قالوا: ظاهر السنة أن غسل الجمعة يكون فرضاً على المكلفين، أو ربما قال من قال: لابد من صارف يصرف هذا الحكم عن الوجوب إلى الاستحباب.

والحقيقة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا تكلم بالكلمة هي في أصلها لم تدل على الوجوب، أما أن نقول: إنها دلت على الوجوب أثناء كلامه، أو قصد بها الوجوب ثم صُرفت صرفاً آخر، فإذا وصل الأمر إلى هذا الإدراك فهذا هو النسخ، بمعنى: أنك إذا قلت: إن الأمر مصروف عن الوجوب إلى الاستحباب، فمعنى هذا -كمقدمات أولى في العقل والفقه-: أن الأمر لم يتكلم به الشارع على سبيل الوجوب، ولكن الفاقهين لهذا النص أدركوا أن نبيهم لم يقصد الوجوب بهذا الدليل من تشبيه متقدم من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم، أو تشبيه مقارب لهذا النص.

فالنبي صلى الله عليه وسلم لما قال: (غسل الجمعة واجب على كل محتلم، وسواك، ويمس من الطيب ما قدر عليه)؛ عُلم أنه صلى الله عليه وسلم لم يقصد أن الغسل واجب بمعنى أنه فرض حتماً؛ لأنه ذكر السواك والطيب؛ مع أن السواك والطيب ليس واجباً، وليس هذا من باب دلالة القرائن الضعيفة، بل هو من باب الاطراد في الحكم، بمعنى: أن الغسل والسواك واجب على كل محتلم، ويمس من الطيب ما قدر عليه، فهذا لم يذهب إليه أحد إلا من شذ في إيجاب السواك.

إذاً: النص إذا استقرئ دل على أنه لم يقصد به الوجوب.

إن مسألة الاستدلال -وهي النقطة الثانية في الفرق بين فقه المتقدمين والمتأخرين- طالب كثير من المتأخرين في هذا النوع من القواعد، مثل قاعدة: الأمر يدل على الوجوب، وقالوا: لابد من صارف خاص؛ ولذلك ربما قالوا في أمر كثير: إنه واجب.

وفي نهي كثير: إنه محرم.

مع أنك تجد أن جماهير المتقدمين بل وعامة الصحابة لم ينقل عن أحد منهم أنه قال: إن هذا الحكم واجب.

وربما ستر البعض عدم فقهه وعدم استقرائه فقال: نحن متعبدون بالنص، ولسنا متعبدين بأقوال الرجال.

والحقيقة أن البحث لم يصل إلى هذا السؤال: هل نحن متعبدون بالحق أو متعبدون بأقوال الرجال؟ لأن هذه مسألة متفق عليها، وإذا كنت تقول: إننا متعبدون بالحق، فالمتقدمون أولى هنا بهذه المقولة، وهم أولى منا فقهاً وإدراكاً وتحقيقاً في اتباع الكتاب والسنة، وعدم اتباع أقوال الرجال.

هذه القاعدة الإيمانية لا يمكن أن تفهم بهذا الأسلوب إلا إذا ناسب لها المقام، فمثلاً: إذا ظهر شخص متعصب، أو مقلد تقليداً أعمى استعملت معه هذه القاعدة، كما قال ابن عباس: (يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء)، وقد قال هذه الكلمة في صورة خاصة، ولم يكن ابن عباس في كل خفض ورفع، أو في كل فتوى يقدم بين يدي فتواه أن يقول: (توشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء)، إنما قالها في مسألة قد أظهر ابن عباس للسائل فيها الدليل الصريح، فلم يقدِّر هذا الدليل حق قدره، فقال ما قال رضي الله تعالى عنه.

أما أن تكون هذه المقولة مقدمة بين يدي الفتوى والمسائل، فهذا لم يكن شأناً للسلف ولا للصحابة رضي الله تعالى عنهم.

إذاً: مما يتعلق بمفهوم الاستدلال: أن هناك أموراً كثيرة في الشريعة لا تكاد تجد أن صارفاً خاصاً -أي: نصياً- قد صرفها عن الوجوب، ومع ذلك الأضبط بل ربما أجمع العلماء على أنه ليس واجباً، وأن هذا النهي ليس محرماً، وإن قلت: إن الإجماع لم ينضبط.

فربما صح لك هذا، لكن إذا ورد عليك السؤال: من قال من المتقدمين بالوجوب أو التحريم؟ ربما تجد أنه يعوزك التحصيل أن تجد إماماً متقدماً من الصحابة أو التابعين ونحو طبقتهم نطق بالوجوب أو بالتحريم.

فهذا مما ينبغي أن يعالج فقهاً، لا أن يرد إلى قواعد ليست هي محل الجدل هنا، وهي القواعد الإيمانية.

نعم، هي الأصل، لكنها تستعمل في حق من يتعصب لمذهب أو لقول فقهي، أو حتى لقول صحابي ويدع قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فهنا يقال له: (يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء)، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما، أما أن يقال هذا كمنهج عام فلا.

ومما يتعلق بمفهوم الاستدلال: أنه ربما يظهر لك في مسألة ما أنها مما ليس عليه دليل، مثلاً: ما يتعلق بكون المرأة إذا طهرت من الحيض في وقت العصر فإنها تصلي الظهر والعصر.

تنبيه: كل مسألة أذكرها ليس المقصود منها الانتصار أو الترجيح لمذهب على آخر، أو أن هذا غلط وهذا صواب.

إنما المقصود أن نصل إلى قدرٍ كافٍ من التفقه فيما نحن بصدده.

أقول: نجد أن الجمهور من أهل العلم الأوائل ذهبوا إلى أن المرأة إن طهرت في وقت العصر فإنها تصلي الظهر، مع أنك إذا نظرت إلى الدليل المفصل، أو ما نسميه بالنص أو بالإسناد الخاص -كما قال الزهري - لا تجد إسناداً خاصاً على أن المرأة يلزمها أن تصلي الظهر وقد طهرت في وقت العصر، لكن الإمام أحمد لما سئل عن هذا القول قال: عامة التابعين على هذا القول، إلا الحسن.

كما نجد أن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عروة بن مضرس الطائفي في السنن، في قصة مجيئه إلى عرفة، قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (من شهد صلاتنا هذه، ووقف معنا قبل حتى ندفع، وقد وقف قبل ذلك بعرفة ليلاً أو نهاراً، فقد تم حجه وقضى تفثه)، وقد ذهب جمهور أهل العلم إلى أن الوقوف بعرفة لا يكون مجزئاً إلا من بعد زوال الشمس، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليلاً أو نهاراً).

وقال صلى الله عليه وسلم: (خذوا عني مناسككم)، وهو في الحج، ففعل فعلاً فقال عامة أصحابه ومن اتبعهم من الأئمة: إن هذا فرض، وأصل في الحج.

وفعل فعلاً آخر فقال جمهور أصحابه ومن بعدهم: إن هذا واجب في الحج.

وفعل فعلاً آخر فقال جمهور أصحابه ومن بعدهم: إن هذا مستحب في الحج.

مع أن النبي عليه الصلاة والسلام ما نطق بالتصريح على أن هذا واجب أو ركن أو مستحب، وهذا من باب -كما قلت- فقه الاستقراء، وفقه مقاصد وأبواب العبادات.

لكن لما جاء ابن حزم رحمه الله -مع شرف علمه وديانته وفضله- وأخذ الأمور على ظواهرها، ووجد أن الله سبحانه وتعالى يقول في سياق آيات الحج: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [البقرة:198]، قال: إن الله قال: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ} [البقرة:198]، فنص على ذكره عند المشعر الحرام؛ فدل ذلك على أن ذكره في هذا المقام فرض واجب؛ لأنه وقف مثل هذه الوقفة التي ربما ظن من ظن أنها نوع من الاستمساك بعروة الدليل، والحق أنها ليست استمساكاً محققاً؛ ولذلك لم ينتحل هذا الفقه في جمهور أمره عامة الصحابة أو جمهورهم رضي الله تعالى عنهم.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015