إذا تأملت في مسألة الفقه، وما كتبه الفقهاء المتقدمون كالإمام الشافعي في رسالته، وما كتبه المتأخرون، أو طريقة التفقه بوجه عام؛ وجدت أن ثمة فرقاً بين فقه المتقدمين وبين فقه المتأخرين؛ ولاسيما إذا اعتبرت أن ما يتعلق بفقه المتأخرين مجمل جمهوره فيما سمي بالمذاهب الفقهية الأربعة، أو بالمذاهب الفقهية الخمسة، إذا أدخلت مذهب الظاهرية.
بمعنى: أن الفقهاء المتأخرين هم في الجملة: إما حنفي، أو شافعي، أو مالكي، أو حنبلي، أو ظاهري.
وحتى يتبين لنا أن هذا التفريق له وجه محقق من جهة العلم يقال: هل الأئمة مالك، والشافعي، وأبو حنيفة، وأحمد، وداود بن علي رحمهم الله ..
هل هؤلاء نصوا على سائر هذه المسائل الفقهية التي نص عليها أتباعهم؟ الجواب: قطعاً لا.
هل هؤلاء في ما نصوا عليه من المسائل قد نصوا على دليل في ما ذكروه من الحكم؟ الجواب: لا.
إذاً: فثمة قدر كبير من الفروع والمسائل التي أضيفت لفقه مالك أو الشافعي أو أبي حنيفة أو أحمد أو داود بن علي وهو لم ينطق بها؛ ولذلك عرف الفقهاء في المذاهب الأربعة ما يسمى بالتخريج على أقوال الإمام، وعُرفت أوجه الأصحاب، بل عرفت المحتملات -وهي ما احتمل الفقه عند الأصحاب- وعرفت أقوال الأصحاب
إلى غير ذلك.
إذاً: إذا قرأت كتاباً من كتب الفقهاء، فهل هذا الكتاب محقق على قول هذا الإمام أم أنه ليس محققاً؟ ليس بالضرورة أن تكون سائر أقوال هذا الكتاب -وإن أضيفت إلى مذهب أحمد أو الشافعي أو مالك - وهي أقواله؛ ولذلك لما صنف ابن قدامة رحمه الله المقنع، وذكر أنه هو المختار عنده في مذهب الإمام أحمد، فإذا رجعت إلى ما كتب على المقنع مما قصد به تحرير مذهب الإمام أحمد أو تحرير مذهب الحنابلة، مثل كتاب الإنصاف؛ فإنك تجد أن صاحب الإنصاف يذكر خلافاً كثيراً على أكثر جمل المقنع: هل المذهب على هذا الوجه، أم على هذه الرواية، أم على الرواية الثانية؟ بمعنى: أنك تجد في فقه الإمام أحمد روايات كثيرة قد اختلف أصحابه أيها المذهب، هذا فضلاً عما نسبوه إليه من الرواية أو من التخريج على الرواية وليس قولاً له، فضلاً عما في كتب هذه المذاهب الأربعة وغيرها من الأقوال التي لا يضيفونها إلى الإمام، وإنما يجعلونها من تكميل المذهب، وهي أقوال أو أوجه للأصحاب.
فإذاً: لا شك أن الأئمة لم ينصوا على كل هذه المسائل بالتنصيص، كما أن ما نصوا عليه من المسائل لم ينصوا على حكمه؛ ولذلك استدل الأصحاب لما نقل عن أئمتهم من الأقوال، ولذلك ربما ضعف عندك قول من الأقوال لأحد من المتقدمين من الأئمة لأنك تقرأ في كتاب فقيه متأخر: أن هذا القول بني على دليل كذا وكذا، فيكون هذا الدليل دليلاً ضعيفاً، فإذا قلت: إن هذا الدليل ضعيف؛ حكمت على القول بأنه قول ضعيف، وربما كان التحقيق: أن الإمام الذي قال هذا القول لم يبن قوله على هذا الدليل.
ومن طريف المسائل -وإن كنت لا أحب أن أدخل في ذلك لضيق المجال-: أنه ربما استدل بعض الحنابلة المتأخرين بأدلة كان الإمام أحمد يشدد في إبطالها وردها وإنكارها من جهة إسنادها وروايتها، ولكنهم وجدوها في كتب السنة، أو في الرواية، أو كتب الأحكام خاصة؛ فاستودعوها أدلةً؛ لأنها من جهة متنها تدل على الحكم إما نصاً وإما ظاهراً وإما دون ذلك؛ وذلك لأن كثيراً ممن كتب في فقه المذاهب الأربعة لم يكن عالماً بالرواية والإسناد، وما يصح وما يضعف، فربما استدل المتأخرون لقول مالك أو أحمد أو غيرهم بدليل ضعيف، فيقال: إن هذا القول ضعيف؛ لأن دليله ضعيف.
والحق: أن الإمام لم يبن القول على مثل هذا الدليل.
بمعنى: أنك تجد أن الحنابلة استودعوا في كتب فقههم المتأخرة جملة ما ذكره أبو داود -صاحب الإمام أحمد - في سننه، وما ذكره سعيد بن منصور؛ فتجد أن غالب الأدلة في سنن سعيد بن منصور، أو سنن أبي داود، قد نزلها فقهاء الحنبلية على كتب فقههم، وعلى مفصل مسائلهم التي قدر كثير منها ما نطق به الإمام أحمد.
هذا ليس من باب الظلم لهذه الكتب؛ لكنه من باب تحصيل الفرق بين طريقة المتقدمين وطريقة المتأخرين.
إن الفرق بين فقه المتقدمين وفقه المتأخرين ربما يقع امتيازه وتقع فروقه في خمس وقفات: