آخر شيء نختم به الكلام هذه الرسالة القيمة، وهي عبارة عن قطعة من مكتوب الشيخ الإمام الزاهد شهاب الدين أحمد بن مري الحنبلي أحد تلامذة شيخ الإسلام ابن تيمية كتبه إلى حنابلة دمشق يعزيهم بالمصاب بعد وفاة الشيخ، ويوصيهم بنسخ تآليفه من المسودات والاحتفاظ بها، وبمراجعة الإمام ابن القيم، ويبشرهم بالعاقبة الحسنة، ويذكرهم بأخلاق الشيخ عليه الرحمة والرضوان.
وقد تعجبت من فراسة هذا الرجل، لما بلغه موت شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى أرسل يعزي أصحاب الشيخ رحمه الله تعالى، وعلى رأسهم ابن القيم في المصيبة الجلل التي وقعت بوفاة شيخ الإسلام رحمه الله تعالى، وأوصاهم وقال عبارات هي في غاية الروعة.
فيقول مثلاً: وكما انتفع بكلام الأئمة قبله، فكذلك ينتفع بكلامه ممن بعده إن شاء الله تعالى، أي: كما أن ابن تيمية أسس مذهبه على اتباع الأئمة الماضين فسوف يكافئه الله بأن يجعله إماماً يقتدي به من يأتي بعده.
تعرفون أن الدعوة الوهابية ما هي إلا صدى تطبيقي لدعوة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، وأنتم تعرفون الآن الاهتمام العجيب بتراث شيخ الإسلام ابن تيمية مما يدل على أن هذا بركة إخلاصه والقبول الذي وضع لعلمه رحمه الله تعالى، رغم الحرب الضروس التي حوربت به مؤلفات شيخ الإسلام؛ حتى إن الأمير عبد القادر الجزائري هذا كان أخذ على نفسه أن يستأصل كتب شيخ الإسلام ابن تيمية، وكان يبحث عن كتب شيخ الإسلام، فمن كان عنده شيء منها أحرقه، ولعلكم تعرفون أن شارح الطحاوية أبهم اسمه، وكتاب: غاية الأماني في الرد على النبهاني طبع بغير اسم المؤلف محمود شكري الألوسي؛ لشدة الاضطهاد الذي كان يمارس في زمن الدولة العثمانية لكتب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، والعجيب أنه إلى اليوم يوجد في تركيا مراكز تنشر كتباً ومطبوعات توزعها مجاناً، وبعض هذه الكتب تشتم شيخ الإسلام، وتشتم الدعوة الوهابية بطريقة مضحكة، إلى الآن تركيا التي وصلت إلى ما وصلت إليه ما زالت بعض الهيئات هناك تقوم بمحاربة الدعوة السلفية.
فالشيخ محمود شكري الألوسي أبهم اسمه خوفاً من الاضطهاد الذي كان سيتعرض له لو جهر باسمه على أنه سلفي؛ كذلك شرح الطحاوية لـ ابن أبي العز بقي الكتاب مدة كبيرة لا يعرف مؤلفه؛ وعلة ذلك أن السلفيين كانوا مضطهدين في ذلك الزمن.
فانظر سبحان الله! كيف مرت العصور والأجيال، وها نحن اليوم نشاهد الأمة تنتفع الآن بتراث شيخ الإسلام.
ثم يقول: ووالله -وتأملوا هذه العبارة العجيبة- إن شاء الله ليقيمن الله سبحانه وتعالى لنصر هذا الكلام ونشره، وتدوينه وتفهمه، واستخراج مقاصده، واستحسان عجائبه رجالاً هم إلى الآن في أصلاب آبائهم! وهذه هي سنة الله الجارية في عباده وبلاده، والذي وقع من هذه الأمور في الكون لا يحصي عدده غير الله تعالى، ومن المعلوم أن البخاري مع جلالة قدره أخرج طريداً ثم مات بعد ذلك غريباً، وعوضه الله سبحانه عن ذلك بما كان لا يخطر في بال، وشيخ الإسلام مات وهو في السجن، والدولة كانت ضده، لكن انظر إلى احتفال الأمة به وبتراثه.
وقد ذكر هنا أن البخاري طرد ومات غريباً رحمه الله تعالى، وعوضه الله سبحانه وتعالى عن ذلك بما لا خطر في باله ولا مر في خياله، من عكوف الهمم على كتابه، وشدة احتفالها به، وترجيحها له على جميع كتب السنن؛ وذلك لكمال صحته، وعظمة قدره، وحسن ترتيبه وجمعه، وجميل نية مؤلفه، وغير ذلك من الأسباب، ونحن نرجو أن يكون لمؤلفات شيخنا أبي العباس من هذه الوراثة الصالحة نصيب كثير إن شاء الله تعالى؛ لأنه كان بنى جملة أموره على الكتاب والسنة، ونصوص أئمة سلف الأمة، وكان يقصد تحرير الصحة بكل جهده، ويدفع الباطل بكل ما يقدر عليه، لا يهاب مخالفة أحد من الناس في نصرة هذه الطريقة، وتبيين هذه الحقيقة، وتسهيل العبارات، وجمع أشتات المتفرقات، والنطق في مضايق الأبواب بحقائق فصل الخطاب ما ليس لأكثر المصنفين في أبواب مسائل أصول الدين وغيرها من مسائل المحققين.
يقول: فكانت مقاصده وتحقيقاته في هذا الباب العظيم عجباً من عجائب الوجود.
ثم يوصيهم بشيخ الإسلام ابن القيم رحمه الله تعالى فيقول لهم: تلميذه ابن القيم حافظوا عليه، هو أعلم الناس بعلم شيخ الإسلام.
ولو قرأتم الرسالة فهي شيء عجيب يقول لهم: انتبهوا! كتاب شيخ الإسلام في الفلسفة كتاب لا نظير له في الرد على الفلاسفة، توجد منه نسخة عند الشيخ فلان، وناقصة منها الورقة الأخيرة، فابحثوا عنها في المكان الفلاني، يعني: كان يعطيهم تعليمات على الرغم من البعد، ويبين لهم كيف يحصلون على هذا التراث لشيخ الإسلام ابن تيمية، ثم يوصيهم بـ ابن القيم وكنيته أبو عبد الله يقول: والشيخ أبو عبد الله سلمه الله فهو بلا تردد واسطة نظام هذا الأمر العظيم فأعدوه، وأزيلوا ضرورته، واجمعوا همته، واغتنموا بقية حياته، واقبلوا نصيحتي فيمن الحقيقة من هذا كله كما كنت أتحقق، إن اغتنام أوقات الشيخ وجمعها على التأليف والإتقان والمقابلة خير من صرفها في مجرد المفاكهة اللذيذة والمنادمة، النفوس فرطت كثيراً في ذلك الحال، والله المسئول بأن يكفها مضرة كمال الفوت الذي لا يعوض عنه بحال إنه رءوف رحيم جواد كريم؛ فإن يسر الله تعالى وأعان على هذه الأمور العظيمة صارت إن شاء الله مؤلفات شيخنا ذخيرة صالحة للإسلام وأهله، وخزانة عظيمة لمن يؤلف منها وينقل الطريقة السلفية على قواعدها، ويستخرج ويختصر إلى آخر الدهر إن شاء الله تعالى؛ قال صلى الله عليه وسلم: (لا يزال الله يغرس في هذا الدين غرساً يستعملهم فيه بطاعة الله).
فهو يقول لهم: حافظوا على تراث شيخ الإسلام حتى تأتي أجيال فيما بعد تنتفع بهذا التراث؛ لأن الرسول قال: (لا يزال الله يغرس في هذا الدين غرساً يستعملهم فيه بطاعة الله) وقال صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى تقوم الساعة)، والله سبحانه وتعالى يقول في كتابه: {وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [النحل:8].
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.