ذم كثرة السؤال في السنة وأقوال السلف

عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ذروني ما تركتم؛ فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه) رواه أحمد ومسلم والنسائي.

وعن أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله تعالى فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدوداً فلا تعتدوها، وحرم أشياء فلا تقربوها، وترك أشياء من غير نسيان فلا تبحثوا عنها)، فالشيء الذي سكت عنه الشرع لا تبحث عنه ما دام أنه لم يذكر في القرآن ولا في السنة، فالأصل هو استصحاب الأصل الذي هو الإباحة في مثل هذه الأشياء؛ فالحلال بين والحرام بين.

فقوله: (إن الله تعالى فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدوداً فلا تعتدوها، وحرم أشياء فلا تقربوها، وسكت عن أشياء غير نسيان) ما تركه الله لم يكن عن نسيان، كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم:64]، فاتركها ولا تتتبعها؛ فإن الله لم يكن لينساها، فكونها لم يحتويها القرآن ولا السنة يدل على أن الأصل فيها هو العفو.

وعن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أشياء فقال: (الحلال ما أحل الله في كتابه، والحرام ما حرم الله في كتابه، وما سكت عنه فهو مما قد عفا عنه، فلا تتكلفوا) يعني: لا تتنطعوا ولا تتتبعوا ولا تفتشوا وتتعنتوا.

لماذا؟ لأن من وصف الرسول عليه الصلاة والسلام ما جاء في القرآن: {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص:86] والحديث رواه الترمذي والحاكم وابن ماجة.

وأخرج الشيخان عن أنس رضي الله عنه قال: (كنا نهينا أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء، وكان يعجبنا أن يجيء الرجل العاقل من أهل البادية فيسأله ونحن نسمع)، وفي رواية مسلم: (نهينا أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء، فكان يعجبنا أن يجيء الرجل من أهل البادية العاقل فيسأله ونحن نسمع)، وانظر إلى شدة تهيب الصحابة رضي الله عنهم من كثرة الأسئلة، حتى إنهم كانوا ينتظرون مجيء الرجل من البادية ليسأل؛ لأنه لن يعامل مثل الصحابي الذي يعيش ليل نهار مع الرسول عليه الصلاة والسلام.

والرسول عليه الصلاة والسلام يعذر من جاء من البادية، فمن جاء من أهل البادية وكان عاقلاً فهذا ما كانوا يفرحون به؛ لأنه سيسأل أسئلة تفيدهم، فلذلك كانوا يفرحون.

وهذا الحديث يبين المعنى الذي نقصده بياناً واضحاً جداً، وكيف أن الصحابة وعوا هذا الأدب والتزموه، حتى إنهم كانوا يمنعون أنفسهم من أن يكثروا من الأسئلة، وما يكاد يوجد لهم منفذ إلا أن يأتيه رجل غريب فيعذره الرسول عليه الصلاة والسلام فيسأل، لكن إذا كان الرجل عاقلاً فإنه يسأل أسئلة جيدة موضوعية فيفرحون بذلك لأنهم سيستفيدون حينها.

(فجاء رجل من أهل البادية فقال: يا محمد! أتانا رسولك فزعم لنا أنك تزعم أن الله أرسلك؟ قال: صدق)، إلى آخر الحديث.

وفي قصة اللعان من حديث ابن عمر: (فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم المسائل وعابها).

ولـ مسلم عن النواس بن سمعان رضي الله عنه قال: (أقمت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة بالمدينة ما يمنعني من الهجرة إلا المسألة، كان أحدنا إذا هاجر لم يسأل النبي صلى الله عليه وسلم) يعني: أقمت بصفة أني رجل وافد غريب، وما أظهرت أني أريد الإقامة؛ لأنه إذا أراد الإقامة وصار من المهاجرين المقيمين فلابد أن يلتزم بهذا الأدب؛ لأنه أدب الصحابة المحيطين بالرسول عليه الصلاة والسلام.

فما أجمع إقامةً وهجرةً سنةً كاملةً؛ لأنه سيظل يعامل معاملة الوافد الغريب، فقد كان يعطي نفسه فرصة الأسئلة ويستفيد من مساءلة النبي صلى الله عليه وسلم.

يقول القاسمي: (ومراده أنه قدم وافداً فاستمر بتلك الصورة ليحصل المسائل خشية أن يخرج من صفة الوفد إلى استمرار الإقامة فيصير مهاجراً فيمتنع عليه السؤال، وفيه إشارة إلى أن المخاطب بالنهي عن السؤال غير الأعراب وفوداً كانوا أو غيرهم).

وأخرج الإمام أحمد، عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: (لما نزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة:101] كنا قد اتقينا أن نسأله صلى الله عليه وسلم -امتثلوا هذا النهي واتقوا أن يسألوا الرسول عليه الصلاة والسلام- فأتينا أعرابياً فرشوناه برداء) وهذه رشوة غير محرمة وإن كانت في معنى الرشوة، ولكنها ليست رشوة في الحقيقة، قال: (فأتينا أعرابياً فرشوناه برداء، وقلنا: سل النبي صلى الله عليه وسلم) لأنه أعرابي فله أن يسأل، وحتى يحرضوه على أن يسأل أهدوا إليه هذا الرداء كيما يقوم بالسؤال ويستمعوا هم إلى الجواب، وهذا -أيضاً- يعطينا معنى تمكنهم من هذا الأدب الذي أدبهم الله به.

ولـ أبي يعلى عن البراء قال: (إن كان ليأتي علي السنة أريد أن أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشيء فأتهيب، وإن كنا لنتمنى الأعراب -يعني قدومهم- ليسألوا، فيسمعوهم أجوبة سؤالات الأعراب فيستفيدوها).

وأما ما ثبت في الأحاديث من أسئلة الصحابة رضي الله تعالى عنهم فيحتمل أنه كان قبل نزول الآية، ويحتمل أن النهي في الآية لا يتناول ما يحتاج إليه مما تقرر حكمه فالنهي لا يتناول الأمور التي يحتاج إليها المسلم، وما من شك في أن كل مسلم تعرض له قضايا أو مواقف يحتاج فيها لمعرفة حكم الشرع، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (قتلوه قتلهم الله! هلا سألوا إذ لم يعلموا؟ فإنما شفاء العي السؤال) فالجهل مرض ودواؤه السؤال، فمن يسأل عن شيء واقع له ثمرة فنعم، أما أن يسأل عن الافتراضات والتفريعات وسائر صور التنطع فهذا غير مأذون به.

والمقصود أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم كانوا يسألونه -فقط- عن بيان أحكام الدين التي يحتاجون إليها، وهذا ليس داخلاً في هذا النهي، كسؤاله عن وجوب طاعة الأمراء إذا أمروا بغير الطاعة، والسؤال عن أحوال يوم القيامة وما قبلها من الملاحم والفتن، والأسئلة التي في القرآن، كقوله تعالى: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ} [النساء:176]، وقال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} [البقرة:219]، وقال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ} [البقرة:222]، ويقول تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ} [البقرة:217] ويقول تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى} [البقرة:220] وهكذا، فوجود السؤال عما سبق وغير ذلك مما ورد في القرآن يثبت أنهم سألوا الرسول عليه الصلاة والسلام، لكن الذين تعلقوا بالآية في كراهة كثرة المسائل عما لم يقع أخذوه بطريقة الإلحاق من جهة أن كثرة السؤال لما كانت سبباً للتكليف بما يشق فحقها أن تجتنب، وأورد الإمام الدارمي في أوائل مسنده باباً أورد فيه عن جماعة من الصحابة والتابعين أقوالاً كثيرة في ذلك.

منها: قول ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: (لا تسألوا عما لم يكن؛ فإني سمعت عمر يلعن السائل عما لم يكن)، وعن عمر قال: (أحرم عليكم أن تسألوا عما لم يكن؛ فإن لنا فيما كان شغلاً) أي: نحن نشتغل بالأمور التي يترتب عليها ثمرة، أما الافتراضات والتفريعات التي لا طائل من ورائها ولا فائدة ولا ثمرة فهذا مما نهينا عن أن نسأل عنه.

وعن زيد بن ثابت رضي الله عنه أنه كان إذا سئل عن الشيء يقول: كان هذا وقع؟ فإن قيل: لا قال: دعوه حتى يكون.

فلا تسأل عما لم يقع، فإن وقع فحينئذ تسأل.

وعن أبي سلمة ومعاذ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تعجلوا بالبلية قبل نزولها؛ فإنكم إن تفعلوا لم يزل في المسلمين من إذا قال سدد أو وفق، وإن عجلتم تشتت بكم السبل)، وهذا مرسل، فالأصل أننا نشتغل بالأمور التي يترتب عليها ثمرة، أما الافتراضات والتفريعات التي لا طائل من ورائها ولا فائدة ولا ثمرة فهذا نهينا عن أن نسأل عنه.

ومثل ذلك الإكثار من التفريع على مسألة لا أصل لها في الكتاب ولا في السنة ولا في الإجماع، وهي مسألة نادرة الوقوع جداً، فيفرغ زماناً كان صرفه في غيرها أولى، ولاسيما إن لزم من ذلك إغفال التوسع في بيان ما يكثر وقوعه.

وأشد من كثرة السؤال البحث عن أمور مغيبة ورد الشرع بالإيمان بها مع ترك كيفيتها، ومنها ما لا يكون له شاهد في عالم الحكمة، كمثل السؤال عن وقت الساعة، وهذا سؤال عما لا يعني؛ إذ علمها عند الله سبحانه وتعالى، فالسؤال عن وقت الساعة مما لا يفيد ولا ثمرة من ورائه، ولذلك لما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الساعة نقل السائل إلى ما ينفعه، وأعرض عن جواب سؤاله، وانتقل إلى ما يفيد فقال: (وما أعددت لها) إلى آخر الحديث.

كذلك السؤال عن الروح، كما قال الله عز وجل: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء:85]، كذلك السؤال عن مدة هذه الأمة، إلى غير ذلك مما لا يعرف إلا بالنقل الصرف، ولا سبيل إلى التعرف على جواب هذه الأسئلة إلا الوحي، وإذا كان الوحي نهانا عن الخوض فيها فلا مطمع أن نجد جواباً صحيحاً لها، فيجب الإيمان بذلك من غير بحث.

وأشد أنواع هذه الأسئلة النوع الذي توقع كثرة البحث بسببه في الشك والحيرة، قال بعضهم: مثل التنطع في السؤال حتى يفضي بالمسئول إلى الجواب ب

طور بواسطة نورين ميديا © 2015