قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: (وفي هذه الزيادة على ما في البخاري من قول الرجل للنبي صلى الله عليه وسلم: (أين أنا؟ قال: في النار) يتضح أن هذه القصة هي سبب نزول قوله تعالى: (لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ).
وكيف ستكون حياة هذا الرجل في الأيام أو الشهور أو السنوات المتبقية من عمره وهو يترقب أنه بعد موته يدخل النار؟ وما مقدار المساءة في مثل هذا الخبر الذي يؤذيه ويسوءه بلاشك؟ فالمساءة هنا جاءت صريحة، بخلافها في حق حذافة فقد جاءت بطريق الجواز، وربما إذا أجاب بأن أباه ليس حذافة تؤذيه بطريق الجواز، أي: لو قدر أنه في نفس الأمر لم يكن لأبيه؛ وبين أباه الحقيقي لافتضحت أمه كما صرحت بذلك حين عاتبته على هذا السؤال، لكن المساءة هنا جاءت بحكم قاطع أنه في النار.
وروى الإمام أحمد والترمذي عن أبي البختري، عن علي رضي الله عنه قال: (لما نزلت هذه الآية: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران:97] قالوا: يا رسول الله! أفي كل عام؟ فسكت.
فقالوا: أفي كل عام؟ فسكت.
قال: ثم قالوا: أفي كل عام؟ فقال: لا.
ولو قلت: نعم.
لوجبت، ولو وجبت لما استطعتم، فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة:101]).
وجاء أن بعض الصحابة قالوا: (لا تسألوا عن أشياء إن نزل القرآن فيها بتغليظ ساءكم ذلك، ولكن انتظروا فإذا نزل القرآن فإنكم لا تسألون عن شيء إلا وجدتم بيانه).
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: الحاصل أنها نزلت بسبب كثرة المسائل إما على سبيل الاستهزاء أو الامتحان، وإما على سبيل التعنت عن الشيء الذي لو لم يسأل عنه لكان على الإباحة.
ونحن -معشر طلاب العلم- وأخص من ينتسبون إلى المنهج السلفي -نحتاج لتحذير متكرر في غاية الجدية في هذا الأمر؛ لأنني ألحظ بعض الإخوة حينما يجلسون إلى الشيوخ أو يراسلونهم بالأسئلة ويتصلون بهم ألحظ كثيراً من هذه الأغراض، فيتصل بأحد العلماء مثلاً، ويسأله سؤالاً ما، ويعد له كميناً حين يوصل جهاز التلفون بجهاز سري، ودون أن يستأذنه يسجل له فتاوى، ثم إذا به يستعمل كلام هذا الشيخ لنصرة طائفته التي ينتمي إليها، أو مهاجمة الشيخ نفسه أو غيره، ويسخر هذا الكلام في مثل هذه الأذية، وهذا -بلاشك- خلق ينافي سلوك السلف؛ لأنه -بلاشك- نوع من خيانة الأمانة، ولابد من استئذانه في مثل هذه الأشياء، وهناك رسالة جديدة أصدرها العلامة الدكتور بكر أبو زيد حفظه الله تعالى، تحدث فيها عن مثل هذا بالتفصيل.
أو ربما يكون السؤال على سبيل الامتحان وطالب العلم لديه غرض، لكنه يخفيه في البداية، ثم يفتح الطريق للكلام بطريقة تشبه الاستدراج إلى الموضوع ليجادله، كلما أدلى بحجة يعارضه بحجة.
وهناك فرق بين الاستفتاء السريع الذي هو سؤال وجواب للإرشاد وبين مقام المناظرة، فالمناظرة لها مجلسها ووضعها وأوضاعها، أما الاستفتاء فأمر آخر، فهذا يحصل كثيراً مع كثير من الشيوخ، وهو أن طالب العلم يسأل متعنتاً لا راغباَ في الاستفهام والسؤال.
وقد أدركت بعض الأخوة في مرة من المرات مع أحد الشيوخ الكبار حفظه الله تعالى، وكأن هذا الطالب سهر الليالي حتى يحفظ مسألة معينة، ثم أتى يجادل بها الشيخ بحيث يستدرجه بأن يفتح له الموضوع، ثم إذا به يجادل ويحرج الشيخ ويحاصره كأنه ملاكم أو مصارع يواجه خصمه، فلا شك أنه يوجد كثير من التعنت وتعمد الإحراج أو الامتحان أحياناً، حتى إن الشيخ -حفظه الله تعالى وبارك في عمره وعمله- رد على الأخ بمنتهى البساطة، وقال: يا أخي! إني لا أحسن هذه المسألة.
وعلم الله أن الشيخ يحسنها من قبل أن يولد هذا الشاب وألف فيها كتباً.
فالشاهد أن مراعاة الأدب عند السؤال واجبة، وأما امتحان السائل فهذا من البدع.
وفي قصة الإمام البخاري في محنته المشهورة أنه أتى رجل وسأله سؤالاً أمام الناس حتى يمتحنه، كي يأخذ الجواب ويشنع على عقيدة البخاري، وهذا ما حصل بالفعل، حتى اضطر البخاري إلى الخروج من بلاده، وحصلت له محنة عظيمة بسبب هذا، فلما سأله على مجمع من الناس وهو يقصد امتحانه واختباره وإيقاعه أجابه على مسألة (اللفظ بالقرآن مخلوق) ثم قال له: وامتحان المسلم بدعة.
فليس من الأدب أنك تسأل المسلم لتمتحنه، أو الشيخ لتمتحنه أو لتظهر أنك أعلم منه في هذه المسألة، فالشخص الذي يتعنت ولا يطلب العلم لا يحل قليل سؤاله ولا كثيره، ولا يجاب ولا يستحق جواباً، لكن فليتأدب في السؤال، ويتلطف ولا يتعنت، ولا ينوي الامتحان ولا الإحراج، ولا استعمال هذا الكلام لامتحان بعض الشيوخ في بعض الموضوعات، إلى غير ذلك من هذه الأشياء.
يقول الحافظ ابن حجر: (والحاصل أنها -أي: هذه الآية- نزلت لكثرة المسائل إما على سبيل الاستهزاء أو الامتحان).
وأما موضوع الامتحان في الاتجاهات الحزبية والانتماء للجماعات والاتجاهات الفكرية فهذه مشهورة وكأنها خلق عادي، وكثير من طلبة العالم يسأل كي يمتحن، لا محتاجاً للإجابة، فلا تمتحن وتقول: سأبحث عن اتجاه هذا الشيخ، أو اتجاه هذا الرجل فمثل هذه الامتحانات الأفضل للمسلم أن يكون سلوكه فيها حسن الظن إلى أقصى مدى، خصوصاً مع العلماء الذين هم ورثة الأنبياء.
يقول ابن حجر: (إما على سبيل الاستهزاء أو الامتحان، وإما على سبيل التعنت عن الشيء الذي لولم يسأل عنه لكان على الإباحة).
بجانب أن كثرة هذه الأسئلة حجة على صاحبها، كما كان بعض الناس يكثر الأسئلة على عالم معين، فلما أضجره وأكثر عليه من الأسئلة قال له: كل ما تسأل عنه تعمل به؟ قال: لا.
قال فما تصنع بازدياد حجة الله عليك.
قال ابن كثير رحمه الله تعالى: ظاهر الآية النهي عن السؤال عن الأشياء التي إذا علم بها الشخص ساءته، فالأولى الإعراض عنها وتركها.
وما أحسن الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (لا يبلغني أحد عن أحد شيئاً؛ فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر) ورواه أبو داود والترمذي، لكن في سنده كلام.