يقول الله عز وجل: {وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا} [النصر:2] هذا القول من الله سبحانه وتعالى يدل على إرادة العموم، فقوله: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ} [النصر:1] عام لكل نصر وفي كل فتح، بدليل العطف بقوله: {وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا} [النصر:2]، فكان الناس يأتون من كل جهة حتى اليمن أقبلت لتدخل في دين الله، فهذا يدل على أن الدعوة قد بلغت كمالها وأن الرسالة قد بلغت وأن الأمانة قد أديت، لذلك استنبط ابن عباس رضي الله عنهما وكثير من الصحابة استنبطوا من هذه الآية أن فيها إشارة إلى اقتراب أجل النبي صلى الله عليه وسلم، وأن رسالتك قد تمت، وأديت ما عليك، فتهيأ للقاء ربك.
ويدل لهذا المعنى في السورة قوله سبحانه وتعالى قبل ذلك بحوالي ثلاثة أشهر في حجة الوداع: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3] أي: كمل الدين، وتمت النعمة، ورضي الله عز وجل لنا الإسلام ديناً، فلذلك بكى عمر رضي الله عنه حينما نزلت هذه الآية، وعلم ذلك لأنه ما من شيء يبلغ الكمال إلا ويئول إلى النقصان.
قوله: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر:1] الفتح قيل: المراد به هنا فتح مكة، وقيل: فتح المدائن والبلاد كلها، يقول ابن كثير رحمه الله تعالى: المراد بالفتح هاهنا فتح مكة قولاً واحداً، فإن أحياء العرب كانت تتلوم بإسلامها فتح مكة، يقولون: إن ظهر على قومه فهو نبي، فلما فتح الله عليه مكة دخلوا في دين الله أفواجاً.
فهم يعلمون أن من شأن مكة أن لا يسلط الله عز وجل عليها أي كافر أو كذاب، كما فعل الله عز وجل مع أبرهة الحبشي، حيث قال تعالى: ((أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} [الفيل:1 - 5].
ثم يقول رحمه الله: فلم تمض سنتان حتى استوثقت جزيرة العرب إيماناً، ولم يبق في سائر قبائل العرب إلا مظهر للإسلام، فلله الحمد والمنة.
وقد روى البخاري في صحيحه عن عمرو بن سلمة رضي الله عنه قال: كنا بماء ممر للناس، وكان يمر بنا الركبان فنسألهم ما للناس؟ ما هذا الرجل؟ فيقولون: يزعم أن الله أرسله وأوحى إليه بكذا، فكنت أحفظ ذلك الكلام، وكأنما يقر في صدري، وكانت العرب تلوم بإسلامهم الفتح، فيقولون: اتركوه وقومه فإن ظهر عليهم فهو نبي صادق، فلما فتح الله عليه مكة بادر كل قوم بإسلامهم، وبدر أبي قومي بإسلامهم، فأسلم قوم عمرو بن سلمة بعد ما وقع ما كانوا ينتظرونه من دخول الناس في دين الإسلام.
وقيل أيضاً: إن الفتح عامٌّ في فتوح البلاد كلها، وتقدمت الإشارة إلى فتوحات قبل مكة.