من أراد أن يعرف خطر الوقت وقيمته، فليتخيل رجلاً عاش ستين سنة مثلاً في معاصٍ، وفي فواحش، وفي كبائر، وفي كفر والعياذ بالله! ثم تاب في اللمحة الأخيرة قبل أن تأتيه الغرغرة، ثم قبض من ساعته بعد التوبة النصوح، فإنه بهذه اللحظات القليلة القصيرة التي تاب فيها يغفر له الله ما قد سلف: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال:38]، فانظر إلى شرف الوقت وخطورة الوقت! لحظات تاب فيها إنسان فهدمت كل علاقة له بماضيه الطويل في الكفر والفسوق والعصيان.
وهذا يدل على أنه من التقصير في حق الوقت أن نقول: الوقت من ذهب، لماذا؟ لأن الوقت أغلى من الذهب الوقت هو الحياة هو أنفاسك: {إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا} [مريم:84] العد: عدد الأنفاس التي قدر لك أنك ستتنفسها من هذا الهواء، فآخر هذا العدد خروج روحك وانقطاع نفسك، وهذا هو العدد الذي يعد لكل منا، وهو مكتوب لكل إنسان بقدره.
فأول خصائص الوقت: أنه أنفس نعمة وأعظم نعمة أنعم الله عز وجل بها على الإنسان، فتراه أرخص ما يكون عند الجهال، وتراه أغلى ما يكون عند العلماء والعقلاء.
وقيمة الوقت قضية تحتاج إلى أن ترضع للأطفال مع لبن الأمهات إذا أردنا الإصلاح فعلاً وأردنا التربية الصحيحة.
هناك لحظتان مما يجسد قيمة الوقت وخطورته: اللحظة الأولى: لحظة الاحتضار حينما يحتضر الإنسان وتخرج روحه ويقول: {يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} [الزمر:56] حينئذ ما من إنسان يأتيه ملك الموت إلا ويود لو أنه يمهل ولو قليلاً حتى يتزود من العمل الصالح، يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المنافقون:9 - 11].
اللحظة الثانية التي تتجلى فيها قيمة الوقت وخطورته: حينما يأوي أهل الجنة إلى منازلهم، ويأوي أهل النار إلى منازلهم، ويرتفع صراخ أهل النار: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} [المؤمنون:107].
يقول الحسن البصري رحمه الله تعالى: (يا ابن آدم! إنما أنت أيام) أي: لست جسداً قوياً، ولست مالاً، لكنك تساوي أيام، أي: تساوي زمناً وأوقاتاً، ولم يقل: إنما أنت سنوات؛ إشارة إلى قصر العمر، وأنه سرعان ما يمر: {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ * قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قليلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [المؤمنون:112 - 114].
(يا ابن آدم! إنما أنت أيام، كلما ذهب يوم ذهب بعضك) كل يوم ينقص منك، ويقل حظك من الدنيا، ومن هنا فلنا أن نرثي لحال هؤلاء القوم الذين يحتفلون كلما مرت بهم سنة بما يسمى بدعة عيد الميلاد، لا يمكن لمؤمن يؤمن بالقضاء والقدر أن يسمي عيد الميلاد عيداً فضلاً عن أن يحتفل به بالطريقة المعهودة المشابهة لطريقة المشركين؛ لأن المؤمن يصدق بأنه حينما كان جنيناً في بطن أمه، وبعد أن مر عليه في بطن أمه عشرون ومائة يوم يأتيه الملك، فيؤمر بكتب أربع كلمات، بكتب: هل هو ذكر أم أنثى؟ شقي أم سعيد؟ ما رزقه؟ ما أجله؟ فيكتب الأجل لكل نفس لها أجل مقدور عند الله سبحانه وتعالى منذ الأزل.
فكل إنسان له كمية من الأيام، وكمية من العمر، وعدد محدود من الأنفاس، فكل زفير وشهيق معدود، وكل إنسان له رزق مقسوم من هذه الحياة، وكلما امتد العمر كلما نقصت هذه الكمية التي أحصاها الله سبحانه وتعالى من الأنفاس، ولا ندري نحن بحقيقتها.
فأنت بتقدم السنوات تزداد اقتراباً من القبر، وفي الحقيقة عمرك ينقص وليس يزيد؛ لأنك تؤمن بالقدر، وتصدق خبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فكلما مضى يوم كلما ذهب بعض منك، وكلما نقص عمرك كلما زاد اقترابك من حفرتك.
ولكي ندرك قيمة الوقت، علينا أن نتأمل قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إن في يوم الجمعة لساعة لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله تعالى شيئاً من أمر الدنيا أو الآخرة إلا أعطاه إياه)، والقول الراجح الذي يدل عليه الحديث أنها آخر ساعة بعد صلاة العصر، وهي ساعة قصيرة قبل غروب الشمس يوم الجمعة.
من يستطيع أن يعيد لحظات من هذا اليوم الذي انصرم؟ ما ولى لا يمكن أن يعود، وهذا يؤكد خطورة الوقت، وأهمية المحافظة على الوقت.
سمعنا كلام الحسن البصري رحمه الله تعالى الذي عاصر كثيراً من الصحابة رضي الله عنهم، وقد قال فيه بعض السلف: ذلك الرجل الذي يشبه كلامه كلام الأنبياء! مع أنه من التابعين، لكنه آتاه الله الحكمة، قيل: إن سبب ذلك أنه رضع من أم سلمة رضي الله تعالى عنها؛ فكلامه يشبه كلام الأنبياء، حتى إن كثيراً من الناس يحفظون عبارات يظنونها أحاديث وما هي إلا عبارات نطق بها الحسن البصري رحمه الله تعالى.
قال الحسن: أدركت أقواماً كان أحدهم أشحّ على عمره منه على درهمه! كانوا يبخلون بالوقت أكثر مما يبخلون بالدرهم والدينار؛ لأن العمر إذا ضاع فات ولن يعوض، والدرهم إذا ارتحل يوماً يمكن أن تعوضه في يوم آخر.
يقول الإمام الشافعي رحمه الله: إذا ما مضى يوم ولم أصطنع يداً ولم أقتبس علماً فما ذاك من عمري فهذا اليوم الذي لم أجد فيه قرباً من الله، ولم أصنع يداً أو معروفاً، ولم أكتسب فيه علماً جديداً، فلا يحتسب ذلك اليوم من عمري!! وكان الوزير ابن هبيرة -وهو شيخ الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى- يقول: والوقت أنفس ما عنيت بحفظه وأراه أسهل ما عليك يضيعُ إذاً: أول خصيصة من خصائص الوقت: أنه من أعظم النعم التي أنعمها الله سبحانه وتعالى على الإنسان؛ لأن الوقت هو الحياة.